نعود لنستكمل الحديث عن الهوية في لقاء سمو ولي العهد، فقد سُئِلَ سموه عن مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وهل هي من ستفسر هذا القرآن والسنة؟

فأجاب حفظه الله بما مُحَصِّلَتُه: إننا لا ننتمي لمدرسة معينة ولا نؤله أحدّا، بل مرجعنا الكتاب والسنة؛ والاجتهادُ مفتوح، وفق النصوص، مع مراعاة تغير الزمان والحال، ولو بُعِث محمد بن عبدالوهاب ووَجَدنا ملتزمين بفتاواه لانتَقَدَنا.

وهذا الكلام هو ما دَرَسْناه وما دَرَّسْناه لتلاميذنا، وما عهدنا علماءنا الأكابر ومشايخهم عليه من قيام الدولة السعودية حتى اليوم، وهذا ما نص عليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في محاضرته التي أعادت دارة الملك عبدالعزيز طباعتها منذ وقت قصير، بعنوان «الأسس التاريخية والفكرية للمملكة العربية السعودية»

فلا يوجد شيء اسمه مدرسة محمد بن عبدالوهاب، ولم يَدْعُ ابن عبد الوهاب إلى مدرسة محددة، بل دعا إلى الكتاب والسنة، ووافقه على ذلك جميع أئمة الدولة السعودية بدءاً بالإمام محمد بن سعود وابنه الإمام عبدالعزيز بن محمد حتى الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن وأنجاله الكرام وهذه رسائلهم موجودة تحكي ذلك، طبعتها دارة الملك عبدالعزيز أيضًا.

بل إن الدولة العثمانية أفتى علماؤها بإغلاق باب الاجتهاد، وكان الاجتهاد محرمًا بفتاوى من أئمة المذاهب الأربعة ومُجَرَّمًا في أنظمة الدولة العثمانية، وكانت الدولة السعودية في طورها الأول هي أول من أعلن علماؤها، وجوب الاجتهاد على القادر عليه، بعد قرون من الفتوى بإغلاقه، ثُمَّ تبع علماءُ العالم الإسلامي علماءَ الدولة السعودية الأولى في ذلك، فكل من أفتى بضرورة الاجتهاد بعد القرن الهجري الثاني عشر، هو عالة وتبع لعلماء الدولة السعودية الأولى، ثم الدولة الثالثة حيث كان الملك عبدالعزيز أول من وحَّدَ صلاة المسلمين على إمام واحد، ثم تَبِعَته بعد ذلك مساجد العالم الإسلامي، والعالم الإسلامي كله مَدِين في فتح باب الاجتهاد للدولة السعودية وعلمائها.

ولاشك أن الاجتهاد ليس عملًا عبثيًّا يُوكَل إلى غير أهله، بل لا يقوم به إلا من وعى أدلة الكتاب والسنة والإجماع وأتقن القياس وعرف العام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين إلى غير ذلك من الشروط المعروفة للاجتهاد.

وهذا هو المعمول به في بلادنا، فإن الديوان الملكي يضم بتوفيق الله تعالى خمسة من المستشارين من أعضاء هيئة كبار العلماء إضافة إلى المستشارين الشرعيين الآخرين، وفيه نص قرآني يقول الله تعالى فيه: ﴿وَإِذا جاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذاعوا بِهِ وَلَو رَدّوهُ إِلَى الرَّسولِ وَإِلى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَستَنبِطونَهُ مِنهُم وَلَولا فَضلُ اللَّهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لَاتَّبَعتُمُ الشَّيطانَ إِلّا قَليلًا﴾ [النساء: ٨٣] فهناك فئة من الناس تخصصوا في النصوص الشرعية رواية ودراية، وهؤلاء هم أهل الاستنباط الذين يَرجِع إليهم أولي الأمر في استنباط الأحكام من النصوص.

ثم سُئل حفظه الله عن سبب اختياره لتقنين الفقه الإسلامي بدلاً من المدونة القضائية، فأجاب ببعض السلبيات لترك كل قاض يحكم باجتهاده الخاص، ومن هذه السلبيات أنك لا يُمكنك أن تقنع الشركات الأجنبية ولا العقول التي تريد أن تستقطبها ما لم يكن لديك قانونًا واضحًا يلتزم به جميع القضاة ويعرف المتخاصمان من له الحق ومن عليه الحق بشكل واضح وميسر، واشترط سموه في هذا القانون أن يكون استمداده من الكتاب والسنة ليكون فيه حفاظ على الأمن والمصالح العامة والخاصة.

والحق أن تقنين الفقه ليس عملاً بالقوانين الوضعية، وهذا موضع الإشكال لدى كثير ممن اعترض على هذا الكلام، وإنما هو إلزام القضاة بقول واحد في كل مسألة، وعدم ترك كل قاض يحكم بما يؤدي إليه اجتهاده.

والحقيقة: أن هذا كان هو المعمول به في عهد الملك عبدالعزيز رحمه حتى نهاية عهد الملك فيصل، وذلك أن تعميم مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم قد ألزم القضاة بالحكم وفق كتاب كشاف القناع عن متن الإقناع، وكان هذا بمثابة التقنين، لأن الكتاب دَوَّن في كل مسألةٍ رأياً واحداً بدليله، وليس هناك فرق بينه وبين التقنين سوى ترقيم المواد، وظل هذا هو المعمول به دون أن يصدر نظام ملكي به، ومع تقادم الزمن، بدأ القضاة شيئًا فشيئًا يتساهلون في تطبيق تعميم الشيخ ابن إبراهيم، إلى أن وصل الحال إلى ما يشبه الفوضى في الأحكام القضائية، ولِيَ كتاب في هذا الشأن منشور على الإنترنت اسمه: «الإلزام بالمذهب في القضاء والفتوى والتعليم». فما اعتمده سموه هو الأصلح إن شاء الله تعالى وهو رجوع إلى الأصل وليس خروجًا عنه.

والسياحة والشركات إنما هي مثال على المتضررين من عدم الإلزام بحكم واحد في القضاء، وإلا فالمتضررون من المتاقضين المواطنين والمقيمين كثر، ونسأل الله تعالى أن يكون هذا التنظيم القضائي مفتاح خير.

وكان آخر حديث سموه عن الهوية هو أن الهوية لا يمكن القلق عليها إلا إذا كُنَّا غير واثقين فيها.

وهذا الكلام أيضًا مما أجاد فيه سموه وأفاد، وسموه يعلم أيضًا أن الهوية الشخصية لكثير من بلاد العالم تُواجه حربًا عالمية هي حرب الهيمنة الثقافية التي هي أحد طرق الهيمنة السياسية، وقد استخدمها قبل قرنين الاستعمار الإنجليزي والفرنسي العسكريين فكانت خسائرهما الاستعمارية أقل بكثير من خسائر الدول الاستعمارية التي لم تتبن استراتيجية حرب الهوية بشكل جيد كالاستعمار الإيطالي والهولندي.

واليوم لا نشك أن هناك حرب هوية من دول أخرى وبمقاصد أخرى أيضًا؛ ودولتنا بما حباها الله من عراقة تُعَدُّ أعظم المستهدَفين ثقافيًّا، ولهذا فإن المواطن على ثقة بأن الدولة ملتفتة إلى هذا الأمر وتعمل وسوف تستمر تعمل على سن ما يحمي الهوية من قوانين في جميع مؤسساتها، التعليمية والإعلامية والترفيهية والسياحية، وفرض مثل هذه القوانين التي تحمي الهوية كفيل بأن يزيد المواطن شعوراً بفخر على فخر وأمن على أمن.

وأختم المقال بأن أسأل الله في علاه أن يحفظ وطننا وقادته وأن يبقي رايته خفاقة يستظل بها أهلها والمسلمون عامة.