جلست على مقعدي في تلك الطائرة في رحلة ستستغرق ساعات طويلة، ولكون موعد الرحلة كان الثالثة فجراً، فلم أتمالك نفسي من أن أغمض عيني وأريح جسدي من تعب السهر والانتظار. وبمناسبة الحديث عن النوم فإن للنوم مراحل أربع، تكون الأولى هي التي تسمع فيها الأصوات ويوقظك فيها أي ضجيج بسهولة، والمرحلة الثانية هي مرحلة الدخول إلى السبات، أما المرحلة الثالثة فتنخفض فيها دقات القلب ويتباطأ معدل التنفس، ولعل هذا سبب تسمية النوم بالموت الأصغر، ثم تكون المرحلة الرابعة التي نرى فيها الأحلام والرؤى والكوابيس، والتي تسبب ارتفاعا في نشاط القلب والتنفس، وأحياناً حركات وأقوال لا إرادية، ويعطي هذا تفسيرا لأولئك الذين استيقظوا من نومهم في حالة فرح وغبطة أو فزع وهلع. بل إن البعض منهم وافته المنية إثر سكتة قلبية وهو في سبات عميق.

دخلت في تلك المرحلة من الأحلام، ورأيت نفسي ضمن فريق الرؤية الذي يخطط لمستقبل أفضل، ويسعى إلى بناء مجتمع فاضل يعتمد على قيم ومفاهيم ثابتة. بدأت تلك المجموعة بغرس مبادئها في أطفال الروضة، فعلمتهم النظام والاحترام والإنصات للرأي الآخر والتعاون لتحقيق النجاح. غرسنا فيهم القيم المجتمعية وحفزناهم على استخدام العقل. انتقلنا للمرحلة التمهيدية فوضعنا مناهج لتعليم الحقوق المدنية، وكرسنا جهدا لغرس مبدأ الحرص على مكتسبات الوطن وعدم العبث بالأماكن العامة وتخريبها، وإرساء مفهوم أن الفساد آفة المجتمعات. صادرنا فتاوى العنف والقتل والتنطع وأرسينا مبادئ السلام والمحبة والإيثار. اهتممنا بالتوعية الصحية وكيف يكون الفرد جزءا من حماية مجتمعه من الأمراض والأوبئة. بعد ذلك عززنا العملية التربوية بمنهج السلامة المرورية والمجتمعية وتفعيل الأنظمة الصارمة ضد من يحاول انتهاك حياة الآخرين أو الإضرار بها. أضفنا منهجا في تعلم أبجديات الطوارئ وتقديم المساعدة للمحتاجين، وأرسينا قواعد المسؤولية المجتمعية وحماية الأفراد من مخاطر المخدرات والإدمان والتحرش. عززنا المساواة والوطنية والشعور بالانتماء، وحاربنا العنصرية والطائفية. تعمقنا في تأسيس مبادئ البحث العلمي والأسس العلمية المبنية على البراهين، وشجعنا المنهج التجريبي. وبينما نحن منغمسون في مناقشة تطوير عملية البحث العلمي إذا بأصوات تنزعني من نومي وتبدد أحلامي الجميلة، استيقظت مذعورا فوجدت ملاسنة حادة بين أحد الركاب الشباب ومضيفة، وقد اجتمع حولها زملاؤها من الملاحين لمساعدتها في تحقير تصرف ذلك الشاب. سألت جاري ما الذي جرى.. ابتسم وقال لا أعلم عندها آثرت الصمت والانشغال بقراءة الصحف الورقية، وكان أول خبر تقع عليه عيني شاب يقتل ثلاثة من زملائه بالعمل. حثني فضولي لمعرفة أسباب القتل فوجدت القاتل قد أفرغ أكثر من 40 رصاصة في أجساد زملائه لأنهم كانوا في مستوى وظيفي أعلى منه، وكانوا يقومون بإعداد محاضر التأخير والغياب عنه!! حاولت أن أتخيل مقدار الغضب الذي يجعلك تطلق أربعين رصاصة فلم أجد مبررا. وبعدها سمعت مضيف الرحلة يعلن ربط الأحزمة والاستعداد للهبوط، وبدأت الطائرة تتهاوى نحو الأسفل وبشكل مخيف.