كثير من الطلاب المبتعثين الذين يدرسون في الخارج لا يتلقون العلم والمعرفة فقط أثناء تواجدهم في بلدان دراستهم، ولكنهم يتأثرون أيضا بأفكار وعادات وقيم وتقاليد ونظم ومعايير البلدان التي يدرسون فيها، ويبقى تأثرهم بثقافة بلدان الدراسة طويلا، وبالتالي سيحاولون نقل تلك الثقافة إلى بلدانهم الأصلية بعد عودتهم. ويتناسب مقدار التأثر بثقافة بلد الدراسة طرديا مع طول المدة التي قضوها في الخارج.

وفي الغالب أن عملية التبادل الثقافي والمعرفي والفكري لا تكون سطحية بقدر ما يكون أثرها النفسي والاجتماعي عميقا يتغلغل داخل عقل الفرد اللاواعي، مما يجعل الطالب وأفراد أسرته -في حال كانوا برفقته- يعيشون حالة صراع نفسي واجتماعي كبيرين، نظرا للتباين الثقافي الذي قد يصل مستوى التضاد الكلي والتصادم في القيم والعادات والمفاهيم.

لذلك ليس من الصواب النظر للابتعاث من زاوية محددة باعتباره وسيلة للتحصيل العلمي أو الانفتاح على الآخر فحسب، بل يجب أن تكون النظرة أكثر شمولا كون الابتعاث وسيلة للاتصال الحضاري وما ينتج عنه من تبادل ثقافي وتثاقف أو اندماج وتمثل لثقافة الآخر، وقد يتعرض الطالب المبتعث لحالة انفصال بسبب عدم القدرة على التكيف مع المجتمع الجديد، مما يولد حالة ارتدادية وعزلة نكوصية.

وللأسف إن كثيرا من المؤسسات التعليمية في بلادنا لا تعطي ظاهرة التثاقف حقها من الدراسة والاهتمام، نظرا لتأثيرها الكبير على الطالب المبتعث الذي قد يكون صغيرا في السن، وتفرض عليه الدراسة في منطقة لا يوجد بها من يشاركه الإيمان بالقيم التي يحملها.

وعملية التثاقف «acculturation» عبارة عن احتكاك بين جماعات ذات ثقافات مختلفة، ومن خلال هذا الاحتكاك تتبادل العناصر الثقافية المتباينة التأثير على بعضها البعض، مما يساعد على تحقيق نوع من التوازن والاندماج الاجتماعي مع بقاء الصفة الصراعية أثناء عملية التثاقف، ووجود الصراع لا يعني بالضرورة وجود العنف، ولكنها تأخذ شكل التجاذب والتنافر غير الملحوظ، وفي حالة الطلاب المبتعثين فإن مجتمع الدراسة سيكون أحد المجتمعات الغربية، وتحديدا المجتمع الأميركي، وكلنا نعرف أن ثقافة المجتمع الأميركي ثقافة مهيمنة وسائدة، لذلك فإن علاقة الطالب السعودي مع المجتمع الأميركي ستكون علاقة قائمة على الإكراه والضغط الثقافيين، ولا شك أن الثقافة الأميركية ستفرض سلطتها على أي طرف آخر، وفي الغالب أن الطالب المبتعث سيتخذ إستراتيجية الاستيعاب أو التمثل (Assimilation) حتى تتسنى له الحياة دون أن يبدو غريبا أو شاذا في هذه البيئة الجديدة، وأسلوب الاندماج يفرض عليه اتخاذ النموذج الغربي طريقة يحتذى بها، فيبدأ بتشكيل كثير من قيمه واتجاهاته وميوله حسبما يمليه هذا النموذج، أي أن عملية التبادل الثقافي ستأخذ اتجاها واحدا، يشمل كثيرا من القيم، سواء كانت قيما دينية أو معيشية أو أخلاقية أو جمالية أو حتى سياسية.

في الغالب تنتج عن عملية التثاقف أشكال من الرفض والمقاومة التي يطلق عليها علماء النفس مصطلح «قلق التثاقف»، ويعرفه يو جاكسون أنه «القلق الذي يصاحب الفرد الذي يتعرض لعملية تثاقف وانسلاخ ثقافي مع تخليه عن بعض معاييره الثقافية الأصلية لصالح معايير الثقافة الأجنبية السائدة»، ويعرفه عالم النفس الشهير جون بيري أنه «عبارة عن استثارة فيزيولوجية تتعلق ردات الفعل فيها بالظروف المحيطة للفرد للتوصل إلى حالات تكيّف كاملة مع الوضعية الاجتماعية السائدة، يتبع هذا القلق التثاقفي عموما بمشاكل في الصحة النفسية والعقلية للأفراد في شكل حصر دائم واكتئاب وأزمات في الهوية، واضطرابات في السلوك مع شعور الفرد بالتهميش والاستلاب».

ونحن نقر أن معظم المجتمعات الإنسانية في العصر الحديث هي مجتمعات متعددة الثقافات، ونسلم أن أي مجتمع يملك حق الانفتاح على المجتمعات الأخرى، وكلما كان المجتمع في حالة تعدد وتداخل ثقافي، فإنه يكون مهيأ بشكل أكبر لاستقبال أفكار وأنماط سلوكية كثيرة، مما يوسع من إدراكاته ويفرض عليه تطوير معارفه وتغيير طرائقه في تفسير العالم. والدخول في حالة تثاقف مع المجتمع الأميركي على وجه الخصوص هي حالة غير متوازنة بطبيعة الحال، وسيظل التدفق الثقافي والمعرفي يصب في صالح الثقافة المهيمنة ذات الصبغة الاستلابية التي ستفرض قيمها ومبادئها على الأفراد المتثاقفين، مما سينتج عنه اختلال نفسي واجتماعي سيقود بطبيعة الحال لضعف في الانتماء الوطني والحضاري.