كيف نكون قدوة بلغة القرآن؟

شعار أطلقه أمير منطقة مكة المكرمة على حملة بناء الإنسان في المنطقة لهذا العام 1441.

ولتستطيع الإمارة أن تجعل كثيرا من المشاريع منطلقة من هذا الشعار، بل ولكي يكون جميع فروع الوزارات والدوائر الحكومية والمؤسسات والشركات متوافقة أعمالها وهذا الشعار، لا بد من تأمله بشكل أكبر مما أجد عليه الحال الآن، من خلال لقاءاتي مع بعض الأحبة من موظفين وأساتذة ودعاة وغيرهم، ففهم المصطلح في تصوري ينبغي أن يأخذ شكلا أعمق كي نحقق أو نقارب الأهداف التي ابتغاها الأمير خالد الفيصل من الشعار الذي اختاره بعناية.

صيانة اللغة العربية من اللحن ومن الدخيل مطلب لا شك فيه لكنه ليس كل شيء، إذ إن الله تعالى حينما أتى بالقرآن الكريم بهذه اللغة العريقة لم يكن معجزا في لفظه وحسب، وإنما معجز في دلالته وفي كونه وعاء لهذا الدين بجميع جوانبه، بحيث لم تكن لغة غير العربية قادرة على حمل هذا الدين وتبليغه، كما قال تعالى ﴿فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا﴾، فحرف اللام في (لتبشر) للتعليل، أي -والله أعلم-: يسرناه بلسان العرب لأنها أبلغ في البشارة وأبلغ في النذارة، وهما محورا القرآن كله، كما أن اللغة العربية هي الأقدر على حشد المعاني الغزيرة في كلمات مفردة أو جمل موجزة، تجعل من التذكر بالقرآن أمرا ميسرا كما في قوله عز وجل ﴿فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون﴾، فتوقع التذكر بالقرآن معلل بكونه باللغة العربية.

واستمع من أمثلة ذلك قوله تعالى ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾، ففي كل جملة من هذه الآية من المعاني ما يذهل المتأمل، فقوله (فأقم وجهك) فيه استعارة لصفة من صفات البدن كاملا، لجزء منه وهو الوجه، إذ الأصل أن الوجه لا يقام وإنما الذي يقام البدن، لكنه تعالى خص الوجه بالإقامة لأنه محل كل الحواس، ففي أعلاه الناصية التي تحتها مركزا اختيار الخير والشر من العقل وفيه مركز التحكم في جميع الجوارح، وفيه السمع والبصر واللسان، فحين يقيم الإنسان وجهه للدين أي يجعله منتصبا له فهو يسخر عقله وحواسه وجوارحه لدينه، ولا أعرف فيما اطلعت عليه من تراث العرب قبل القرآن استخداما لهذه الاستعارة، فهي مما سبق إليه القرآن من المعاني، والملاحظ أنه لم يقل: أقم وجهك بالدين، بل قال أقم وجهك للدين، أي لأجل الدين، فليس كافيا من العبد أن يقوم بهذا الدين وإنما المطلوب ما هو أكبر، أي: أن يقوم لأجله ويجعل نفسه في خدمته والدفاع عنه والدعوة إليه وتمسك الخلق به والامتثال لتعاليمه.

والخطاب في قوله تعالى {فأقم} في أصله موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يحمل ثلاث صفات كبرى، فهو نبي رسول وهو ولي أمر وقائد وهو عبد من عباد الله، فلذلك يدخل في هذا التكليف كل الأمة على حد سواء، فولاة الأمر الذين هم خلفاؤه في هذه القيادة، والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء ويلحق بهم أهل الدعوة في شتى أعمالهم، ويدخل فيه سائر عباد الله من المؤمنين، الكل مطالب بالقيام بالدين وللدين، كلٌ فيما خوله الله إياه.

وقوله {حنيفا} إعرابها حال، أي: إذا أقمت وجهك للدين فالزم حال التحنف، والحنيفية كلمة جامعة لمعاني الاستقامة والاتباع والإخلاص، ولا يوجد فيما أعلم كلمة جامعة لهذه المعاني إلا الحنيفية، وكذلك هذه الكلمة مما لا نعرفه من جوامع الكلم قبل القرآن العظيم غير ما ورد في بعض كتب السيرة من وصف لبعض بقايا العرب على ملة إبراهيم بأنهم حنفاء، فالمسلم يكون مستقيما غير منحرف، متبعا غير مبتدع، مخلصا غير مشرك.

ثم يصف الله هذا الدين الحنيف بأنه {فطرة الله التي فطر الناس عليها} أي: أن جميع الناس، أولهم وآخرهم، مسلمهم وكافرهم، مهتديهم وضالهم، إنما بنيت خلقتهم، وبرئت عقولهم وعواطفهم على هذا الدين، فلذلك فإن كل من خالف هذا الدين أو خالف شيئا منه منحرف عن أصل الفطرة أو شيء منها، وبما أنه دين الفطرة، فهو صالح ومصلح لكل إنسان في كل مكان وزمان، ومن لم يدعه لهذا الدين نبيٌ أو داعيةٌ دعته إليه فطرته وأصل تكوينه عن طريق مسيس الحاجة الروحية والبدنية والمصلحية والاجتماعية إليه، فكل فرد أو مجتمع لا يقوم بهذا الدين على وجهه، في عباداته ومعاملاته وأقضيته وجميع نظامه فإن خلله باق ومتسع حتى يرجع إلى ما فرط فيه كما تشير لذلك الآية نفسها {لا تبديل لخلق الله} فلا علاج من مخالفة الفطرة إلا بمراجعتها كما لاعلاج من اضطراب الخلقة إلا بعافيتها.

وتصف الآية بقوله تعالى {ذلك الدين القيم} وهي كلمة أيضا جامعة في وصفه، فالقيم في اللغة تطلق على المستقيم في نفسه وعلى الذي يفعل الاستقامة في غيره، وعلى الذي يحفظ غيره من الزوال والتلف والأذى، وكل هذه المعاني مجتمعة في الإسلام.

هذا مثال على دلالات لغة القرآن، وحين نطمح لأن نكون قدوة بلغته حريٌ بنا أن نتتبع هذه الدلالات ونعمل بها، وقد يبدر لنا هذا المعنى حين نتأمل قول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت «كان خلقه القرآن»، أي أنه يتخلق بما دلت عليه ألفاظه وتراكيبه.

فيقيني أن الأمير حين أطلق هذا الشعار لم يكن يريد له جوابا أجمل من جواب عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال متحدثا عن الصحابة رضي الله عنهم «كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمهن ونعمل بهن».

لقد اقترح كثير من الإخوة مزيدا من العناية بلغة النشء ومزيدا من التدريب على مهارات النحو والإملاء والخط.

واقترح آخرون تدريب العمالة على اللغة العربية وإلزامهم الحديث بها، واقترح آخرون العناية بلغة المجيبين على الهواتف في الدوائر والمؤسسات والشركات، واقترح غير هؤلاء كثيرا من الاقتراحات الموفقة والطيبة بإذن الله.

وأنا هنا أقترح إقامة كثير وكثير من الدورات والدروس في تدبر آيات القرآن، ولا أعني التفسير، الذي هو في رأيي عمل تخصصي يتلقى منه الطلاب في المدارس ما يفيدهم ويتوسع فيه أهل الاختصاص من طلبة العلم والعلماء، أما التدبر ففرع من التفسير هو شأنٌ للجميع حيث يسمعون كلام الله ويتلونه ويشعرون شعورا يلامس شغاف القلوب، وتقشعر منه الجلود بأن الله تعالى ربهم يكلمهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، كما قال سبحانه ﴿الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد﴾.

بسط الأمير خالد الفيصل في كلمة له في إحدى منتديات جدة الاقتصادية شكواه من انصراف العالم عن الأخلاق وغرقهم في بحار العولمة، وما ذكره لا يخالفه فيه عاقل من مشرق أو مغرب، ونحن لدينا سفينة النجاة التي ندرك بها ما فاتنا ونحول بين خسارة المزيد.

نعم لقد فرطنا في كثير من أخلاق القرآن واتخذنا بدلا عنها أخلاقا نفعية، سواء أحسنت أم قبحت فمبناها على الهوى أو المصلحة الخاصة لا تمثل ديننا ولا تراثنا الإسلامي، ومطلبنا الحق هو تلك الأخلاق التي تدلي بها إلى ألسنتنا وقلوبنا وجوارحنا لغة القرآن.

وهنا يكمن عظيم الحاجة إلى أهل العلم والدعوة، ومعهم خطاب مغترف من معين القرآن، فيقدمون ما قدم ويؤخرون ما أخر، ويعظمون ما عظّم ويهونون ما هوّن، هنالك تقع عليهم مسؤولية كبرى في تفجير مكنون لغة القرآن ونشر مضامينها.

جزى الله الأمير كل خير على رفع القرآن شعارا، وأسأله سبحانه أن يجعله له دثارا ونورا يمشي به يوم القيامة.