تجارب الجائعين المتحولين إلى مناضلين في العالم، سواءً على مستوى الأفراد أو الأحزاب كُثُر. أعتقد أنها لا تعد ولا تُحصى. أبرز تلك التجارب في نظري، تجربة اليساريين في أوروبا، والبعثيين في سورية والعراق. كيف تحولوا من صُنّاع مبادئ وشعاراتٍ رنانة، إلى مأجورين في جهة، وفي جهةٍ مقابلة إلى مُنفذين لأجندة حامل «الحقيبة» المُمتلئة بالعملات الصعبة.

اليساريون إبان الثورة الفرنسية قدموا ما أسموه حينها «مشروعاً» يهدف إلى تحسين ظروف العُمّال، بالإضافة إلى الضمان الاجتماعي. مع الوقت فشلوا في ذلك من حيث المبدأ، ولجأوا بعد فشلهم إلى أفكار الغريم التقليدي «اليمينيون» سعياً لإنقاذ ما تبقى من مشروعهم، الذي اعتمد على الانتقائية من جانب، والتعتيم في جانبٍ آخر على كل ما يخالفهم في الرأي والتوجه والأفكار، إلى أن بلغوا مبلغاً أكبر من ذلك، حين فشلوا فشلاً مُدويا في تطبيق ما يزعمون أنه «ديمقراطية» في الاتحاد السوفيتي، والصين، وبعض من دول أوروبا الشرقية، وفي بعض الأحيان في أجزاء من الشرق الأوسط.

وفي العالم العربي لا يبتعد الأمر كثيراً عن سابقة، فتجربة البعثيين والقوميين العرب تحتوي على أمثلةٍ عديدة، لخروج العديد من رموز القومية العربية من رحم الحاجة والعوز والجوع، ما دفع إلى تحويل أنفسهم إلى أوراق في مشاريع أثبتت فشلها مع مرور الوقت، مقابل حفنة من المال، أو خوف من نظام عسكري فاشي، لا صوت يعلو على صوته إلا صوت البندقية. في سورية على سبيل المثال، كان حزب البعث الآمر الناهي في جُل تفاصيل حياة السوريين. في العراق كان الأمر كذلك. إن لم تكُن بعثياً أو مؤمنا برسالة الحزب العابرة للقارات «أمة عربية واحدة ذات رسالةٍ خالدة»، فأنت إما أن يكتب لك الزج في غياهب سجون أجهزة المخابرات، أو تُحرم من أبسط مقومات الحياة. زعيم الحزب في المناطق السورية والعراقية آنذاك كان يمثُل «جابي» الأموال والطاعات والولاءات، تارةً باحمرار العين، وأخرى بقوة السلاح.

تبخرت مع السنين تلك المشاريع بعد أن أثبتت فشلها واصطدمت بالشارع والرأي العام، الذي اكتشف أنها لا تتجاوز كونها شعارات، قفز عليها ثُلة من المفلسين، والجائعين، ممن تحولوا – هم أو ما تبقى منهم - في وقتنا الراهن إلى ما يرونه «قادة رأي» في وسائل إعلامٍ غربية في بعضها وفي بعضها الآخر عربية، ونراهم ونسميهم بمسمياتهم الحقيقية «مأجورون مرتزقة».

ولي في تلك التسمية أو الوصف أدلةً أو حُجج، وإلا كيف لوسائل إعلام غربية وعربية كبرى، تدعي الحياد والمصداقية والنضال باسم الحريات ونبذ العنف، تعمد في وضح النهار إلى دعم سيدة «يمنية سابقاً تركية الجنسية لاحقاً» محسوبة على جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، بانتمائها لحزب الإصلاح في اليمن، عُرف عنها ما يسمونه «دعم الثورات» وهو في حقيقة الأمر «تحريض» صريح ضد الاستقرار في المنطقة العربية.

ناضلوا عن سيدةٍ - أشمئز من ذكر اسمها والنظر في محياها – دفع بها تنظيم الحمدين إبان الثورة على نظام علي عبد الله صالح في اليمن بالمال القطري للحصول على جائزة نوبل «مهزوزة المعايير»، ونُصبّت أو تم اختيارها مؤخراً في مجلس الرقابة العالمي لموقع «فيس بوك»، لم تسلم منها بلادها بالدرجة الأولى ناهيك عن بقية دول العالم العربي، لا سيما التي تختلف مع منهجية الإخوان المسلمين، بعد أن احتوتها الماكينة الإعلامية في دويلة قطر، التي تأتمر لتعليمات قصر الوجبة في الدوحة، لتنفيذ أجندةٍ ترمي في نهاية الأمر إلى التفرقة والتشظي في العالم العربي، عبر التحريض ودعم الجماعات المسلحة. في ذلك تعزيز للكراهية بما لا يدع للشك مجالا، لكن الريال القطري للجائعين يعني الكثير ويفوق كل شيء.

يختلف النهج اليساري والبعثي والاشتراكي والشيوعي مع أي منهجية تتخذ من أيٍ من الأديان ستاراً، وتجد في السياسة منفذاً لها. الجوع والإفلاس الأخلاقي وانعدام المبادئ وضعفها مقابل المال السياسي، دفع بمن كانوا «في الطرف الغربي والعربي» مُتشدقين بالحريات ونبذ العنف بأشكاله، إلى مناضلين باسم أعضاء في جماعات مارقة. راقبوهم في الإعلام العربي والغربي، فالمساحة لا تتسع لذكرهم.. وهم لا يستحقون.