(1)

أستمتع بحفظ وترديد بعض الأبيات العربية، ومن أجمل الأبيات التي أعدت الوقوف عليها مطولاً في الفترة الأخيرة، البيت الشهير لأبي العلاء المعري الذي يقول فيه:

ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً..

تجاهلت، حتى قيل إنّي جاهلُ

بيت عبقري ومدهش جداً، يرسم للإنسان النموذج الذي ينبغي عليه أن يدركه لمعرفة أهمية الاستغباء والتجاهل من أجل تعايش أجمل وأطيب مع الناس في حياتهم الطبيعية.

بعد تأملي لهذا البيت، بدأت أفكر في مدى حياة البؤس التي تواجه أصحاب المعرفة والإدراك، الذين لا يتحلون بذكاء اجتماعي يجعلهم يعيشون في محيطهم حياة مريحة وبدون منغصات حياتية تنكد عليهم صفو الحياة وطيبها وجمالها.

(2)

العرب قديماً يقولون:

ليس الذكي بسيدٍ في قومه

لكن سيّد قومه المتغابي

وهذه أيضاً حكمة أخرى توضح أهمية التغافل عن شطط وخطايا الأقارب والمعارف. وأتفق مع فلسفة هذا البيت، حيث إنني أعتقد أنه لا يحدث أبداً في أي مجتمع أن يتزعم ويتسيد على مجموعة ما، شخص أناني وغبي، يتوقف في مسيرته في الحياة أمام زلات من حوله ليدققها وليتفحصها مرة بعد أخرى.

(3)

قبل فترة طويلة استمعت لمقطع للشاعر الشعبي محمد المقحم تحدث فيه عن أن التخادع صفة رفيعة وعالية وليس بالضرورة أن تكون من ضمن صفات الكرماء والأسخياء، لأنها صفة وسمة للعظماء والدهاة وبالتالي فإنه ليس من السهولة بمكان أن يتصف بها أي إنسان. وليدلل على ذلك، ضرب مثلاً جميلاً من واقعنا المعاش، يقول؛ قد تجد أحد معارفك كريما جداً لا يكاد مجلسه يخلو من مرتاد، ولكنه مع هذا الكرم لا يستطيع أن يمرر لعامل البنزين تزويده عددا من الهللات في حسابه بعد تعبئته لبنزين سيارته.

يعلّق محمد على مثل هذه المواقف، فيقول؛ إن هذا الكريم يرى في هذا الموقف مجرد استغلال بشع من العامل ولا يستطيع أن يتخادع ويمرره له، ولذلك يبقى مثل هذا الكريم مجرد شخص عادي ولا يمكن احتسابه من ضمن إطار الدهاة والأذكياء، لبقائه أسيراً للنظرة الضيقة حول الاستغلال والجشع.

(4)

قرأت من ضمن وصايا ابن حزم في كتابه السير والأخلاق، هذه الوصية العجيبة (احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفّظ من أن توصف بالدهاء؛ فيكثر المتحفظون منك، حتى ربما أضر ذلك بك، وربما قتلك). وهذا يؤكد أن التغابي ميزة للدهاة والأذكياء.

(5)

تراثنا العربي لم يغفل أيضاً عن هذه الفكرة، فجاءت حكمة (جزاء سنمار) والتي تحكي قصة المهندس الذي نتيجة لتباهيه بعقله وتفرده وذكائه قدّم روحه هدية للنعمان عندما بنى له قصر الخورنق. ولو أنه سلم من تباهيه بذكائه، لسلمت روحه وحياته.

(6)

قبل أن تنهي المقالة، تذكر أخي العزيز أن زملاء عملك، وجيران منزلك، وأصدقاءك القريبين، وعائلتك الصغيرة، هم اليوم بمثابة قومك الذين قصدهم أبو تمام في البيت أعلاه، ليس الذكي بسيد في قومه.

ولذلك يا عزيزي مارس غباوتك وتغافلك عما يسوؤك ممن هم حولك. واعلم أن هذا الوضع لا يمكن الانتقال إليه بضغطة زر، بل هو لن يتأتى إلا نتيجة تأمل في دوافع الآخرين وفي بعض سلوكياتهم، وبالتأكيد بعد صبر طويل ومداومة أطول.