أتيح لخطاب الصحوة كامل الفرصة للتعبير عن نفسه، وأخذ مداه الزمني بشكل مريح، واستحوذ على إمكانيات ومساحات شاسعة مادية ومعنوية، وتم بواسطته تعميم خطاب حمل مضامين هي عبارة عن إكراهات أيديولوجية تم ترسيتها، كما لو أنها قواعد دينية ملزمة لمجتمع حوى تعددا مذهبيا، ما أدى إلى انسدادات فكرية ما يزال المجتمع يعاني من آثارها، بسبب ذهنية القطيعة والانغلاق في الخطاب الصحوي.

وما يزال الحديث حول الصحوة في غالبه، يدور حول تشدد الرأي الفقهي للصحوة، والذي هو مشترك معرفي مع التيار الديني التقليدي، وإن زاد الحديث عن خطر الصحوة فهو الانتماء إلى أجندات خارجية، مستبعدين الورطات الحضارية الكبرى التي أوقعتنا فيها الصحوة، ناهيك عن الآثار النفسية العميقة التي تعيق الكثير من الأفراد السعوديين عن مواكبة جهود الدولة التطويرية والتحديثية للبلاد.

ومع إمكانية عودة الصحوة تحت أي ظرف، وفي أي شكل أو قالب ممكن ومتوقع، أو غير متوقع، مثلما عادوا عبر موجة التدريب وبرامج تنمية الذات، ثم عادوا مرة أخرى عبر الإعلام ومواقع الشبكة العنكبوتية، ثم عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد، فهم يعودون عبر وسائل وطرق مبتكرة ومختلفة، قد يكون بعضها عكس المنهج الذي تقوم عليه الحركة والتنظيم أو التيار، وأبسط مثال على ذلك، أن الفكر الصحوي ما زال ساري المفعول حتى اليوم ويتشكل في إهاب حماية الفضيلة المهدرة من قبل القرارات الرسمية، وكأن الفضيلة والرذيلة لا يحدد معالمهما إلا الفكر الديني، وليس الفكر الأخلاقي الإنساني العام، الذي يشترك فيه البشر بغض النظر عن أي ميول أو توجه.

وتكمن خطورة الفكر الصحوي المتدثر، في مضاره وأخطاره الكبيرة على مستقبل الانفتاح الاقتصادي والثقافي للبلاد، والذي يأتي -كما أسلفت- في شكل معارضة خفية ومستترة لبعض الإجراءات والتوجهات التي يتطلبها المستقبل، ومن ثمَّ تمرير أجندة معروف مقدماتها، ومعروفة نتائجها.

ومن هنا أجد أن الأمر ملح؛ لدراسة «الخطاب الصحوي المتدثر/‏‏المستتر»، إن جازت التسمية، أو دراسة ما يمكن أن نطلق عليه «الخطاب الصحوي الجديد»، على غرار ما قامت به جامعة القصيم في (2018) من تنظيم المؤتمر النافع «الصحوة، دراسات في المفهوم والإشكالات».

فمن المهم والضروري دراسة ملامح هذا الخطاب (المتدثر) من حيث المنهج والمضمون، ليمكن مقاربة الإجابة على عدة أسئلة جوهرية في سبيل إزاحة الانسداد الفكري في قنوات ومسارات المجتمع الحضارية والثقافية بعمومها، ومن أهم هذه الأسئلة في نظري: ما يتعلق بمدى إمكانية استمرار الفكر الصحوي، واحتمالية عودته؟ ثم عن سبل تجفيف منابع هذا الفكر، والقضاء المبرم على إمكانية عودة الحراك الصحوي مستقبلًا؟ وكذلك متى يمكن الجزم بأن المجتمع السعودي تجاوز هذا الفكر بشكل نهائي؟

وأجد أن أفضل منطلق معرفي وعلمي مناسب لبناء أهداف ورؤية المؤتمر، هما دراستان: للدكتور محمد بوهلال، بعنوان (خطاب الصحوة السعودية، 2014)، ودراسة الدكتور سليمان الضحيان، بعنوان (الخطاب الصحوي في السعودية، وإشكالية الحركية، 2018)، وأستعرض معكم الفكرة العامة للدراستين: فقد استخدم «بوهلال» أداة مهمة لرصد ما حاول أن يقرأه في خطاب الصحوة السعودية، وهو خطاب تحليل المضمون؛ حيث إنه قدم في كتابه، قراءة في أفكار وأدبيات عدد من الرموز المحسوبين على التيار الصحوي في المملكة، وبحسب «بوهلال»: فقد مرت الصحوة بأطوار متعددة، تنوعت خلالها أفكارها، وتعددت أشكال تنظيمها، وتفاوتت درجات حضورها، وقسم المؤلف هذه الأطوار بحسب ما هيمن على كل مرحلة من مشاغل، وخطابات: فبدأها بتشكيل رؤية مذهبية عقائدية للحفاظ على الجانب العقدي، ثم طور ثانٍ متجسد في الاهتمام بما أطلقوا عليه «فقه الواقع»، وطور ثالث هو المشاركة السياسية من موقع المعارضة للدولة ونهجها، وصولًا للطور الأخير الذي وصفه «بوهلال» بمرحلة التشظي والانحسار، حيث افتقد التيار خلاله قدرًا كبيرًا من قدرته على التأثير والتوجيه.

أما الضحيان فكان لب فكرته، أن أساس الإشكال في الخطاب الصحوي السعودي اعتماده في نشأته على تنظيرات الحركيين الإسلاميين في مصر والشام لواقعهم المغاير لواقعنا المحلي، وهذا ما أدى إلى نقل ذلك التنظير المختلف إلى واقعنا المحلي، الأمر الذي جعل خطاب الصحوة السعودي ينزلق إلى تبني الرؤية الحركية التي أنتجت مظاهر إشكالية كظاهرة (إسلام الحزب)، وظاهرة (الاستعلاء وعقلية التوجس)، وظاهرة (العقلية الصراعية)، وظاهرة (حراسة الصحوة).

ويطرح الضحيان مقترحًا على التيار الصحوي مفاده، أن هذه الظواهر الإشكالية السلبية التي أصبحت من بنية الخطاب الصحوي السعودي، تستلزم البدء بحركة تصحيحية للقضاء عليها، وتحويل الخطاب الصحوي إلى خطاب ديني منضبط بالقيم التي يدعو إليها الدين، من عدل ورحمة في التعامل مع المخالف، وانفتاح كل التيارات الفكرية في المجتمع، ومد الجسور معها، والقبول بالتعددية الفقهية، والخروج بالمتدينين من ضيق التربية الحركية المنغلقة على مجتمع المتدينين إلى رحاب المجتمع بكل أطيافه وتياراته؛ ليتربى الشاب المتدين على أنه جزء من المجتمع الكبير بكل تياراته وأطيافه، وأن عليه التفاعل معه وتقبل وجود الاختلاف والتعددية، وأن قناعاته الدينية ليست هي الممثل للدين؛ بل ثمة قناعات دينية أخرى في المجتمع لها حضورها، وأن من واجبه احترامها، والحوار معها، وتقبل وجودها. وفي الوقت نفسه تقبل ما يوجه إلى قناعاته الفكرية من نقد، والتعامل مع هذا النقد على أنه ترشيد لفكره، وليس مؤامرة على الدين والصحوة.

وهو بهذا المقترح كأنه يدعو إلى إعادة إدماج الصحوي العادي في المجتمع، وإعادة تأهيله، وهذا في ظني يحتاج إلى خطة وطنية شاملة.