عبد العزيز، عرفته سفرًا وحضرًا، قبل أكثر من عشرين سنة، كان وما زال آية في الذوق والرقي والتحضر في تعامله، مع الأشياء والناس، ولم يكن هذا هو اللافت في شخصية صديقي عبد العزيز، إنما المميز فيه هو العمق المعرفي والسعة الثقافية، فقد كنت أراه يغرق في قراءة أحد العلوم حتى أظن أنه سيفارق تخصصه الأدبي واللغوي، وبعد سنيات قليلة، أجده انتقل إلى مجال معرفي آخر وعلم مختلف، وهو في تلك الأثناء لا ينفك عن التفاعل المغرق في الرواية والسرد والتعاطي معها، قراءة ودرسًا ونقدًا وتحليلًا وتفكيكًا، وقبل أيام كنت أناقش معه مسألة ثقافية عابرة، فقال لي: «أنا مقتصر على الرواية، وأحاول توظيف كل قراءاتي ومعارفي السابقة لها وحولها، كتابةً ونقدًا، وفي هذا تعزيزٌ لما كنت أقوله دومًا للأصدقاء الذين يأنفون من قراءة الروايات الملهمة والجادة، بحكم أنها قصص، وهذا أمر لا يقوله إلا من كان محدود الاطلاع في أكوان الرواية ومجراتها، فالروائي المحترم، هو طليعة مثقفي العصر، ودرتهم، وشامتهم، لتوفره على حصيلة معرفية ثرية أخذت من كل علم بحظ وافر، حتى يشكل لنا شخوص روايته، وأحداثها، ويروي لنا بعمق تناقضات الحياة والأحداث والمشاعر، وتناغمات الموت والأفكار والأرواح، فالروائي عارف ملم: بالتاريخ، والجغرافيا، والدين، واللغة، والفلسفة، والاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، وبعلوم الجريمة والأمن... إلخ، أو هكذا يجب أن يكون.

أعود لصديقي عبد العزيز بن عبد الله السليم، سليل أسرة السليم العريقة في بريدة، بيت العلم والرياسة العلمية في زمانها، والذي أصدر كتابًا بعنوان: (الصين بعيون عربية، مذكرات موفد، 2012-2016)، يحكي فيه حكاية أربع سنوات من عمره قضاها موفدًا من قبل وزارة التعليم إلى هذه الإمبراطورية التي توشك أن تبتلع العالم، ومن الطريف أن الكتاب قد صدر مع بدء انتشار جائحة كوفيد 19، والتي تشير كل أصابع الاتهام فيها إلى التنين المتمرد.

يقول الكاتب: «هذا الكتاب، تلسكوب يقرب الكوكب الصيني، ونجومه وأجرامه الغائبة عن عامة الناس».

فقد حكى الكتاب عن الكواليس الغريبة في قصور الإمبراطوريات، وعن تخلي الحزب الحاكم عن شيوعيته، وعما يدور في العقل الصيني عن الشخصية العربية، وعن وضع العربي هناك، وتعاطيه مع الطباع الصينية.

ويقول الكاتب: «الكتاب يباشر الفكرة بالسرد القصصي فيصيب حقيقتها... فتنثال في ثنايا الكتاب عامة طبيعة الصيني النملية، التي لا تكل ولا تمل عن الدبيب، والحركة في العمل أيًا كانت أهميته ونوعه». و«هذا الكتاب ينطلق بسنارته الغارقة في بحر الصين العظيم، فتستخرج من قعره كائنات كرستالية، وألوانًا من فسيفسائيته التي لا ترى إلا في بلاد العجائب».

وعلى طريقة الأدباء يتكئ الكاتب على نصين ويحبرهما بتعليق أنيق جميل، وضعهما على طرة الكتاب الداخلية:

الأول: «جدار صامت وحسب، لكنه حكاية التحدي، حكاية الإصرار، حكاية الخلود، حكاية الأشياء من العدم، رواية الحلم والتاريخ، (فانهضوا، يا من ترفضون أن تكونوا مذلين... من دمنا من لحمنا نبني لنا سورًا عظيمًا جديدًا...)». (ما بين القوسين، للشاعر الصيني الكبير، تيان هان).

الثاني:«قبل أن يكون تنينًا (كان الصيني في يوم من الأيام، مدمن كحول، ومستلب الإرادة، ومطمعًا للبريطانيين، واليابانيين، فكافح ووصل إلى القمة) لأنه مختلف في فلسفته، في ثقافته، في فكره وأطر تفكيره، في تعاليمه وحكمته، حمى نفسه من إغراءات الحضارة الغربية وانحرافاتها وصراعاتها وشذوذاتها، الرجل الصيني هو تاريخ الصين كله». (ما بين القوسين من كلمة الرئيس الصيني لتهنئة شعبه بسنة 2018).

وبحسب السفير السابق لخادم الحرمين الشريفين في الصين، الدكتور محمد البشر، والذي قدم للكتاب مشكورًا بمقدمة جزلة المبنى، غزيرة المعنى:«... المكتبة العربية ما زالت تفتقر إلى كثير للتعريف بآفاق الصين الهائلة». ويقول الدكتور محمد:«هذا الكتاب (الصين بعيون عربية) أول كتاب عربي يطرق هذا الغرض -حسب علمي- مستخدمًا منهجًا وصفيًا، وميلًا قصصيًا، مع إيغال في التصريح، لإظهار مكنون ذاته، والتعبير عن انطباعاته، وهذا ليس بمستغرب من رجل، فتح الله له بابًا من أبوابه، ويسر له سببًا من أسبابه، فشد رحاله إلى مجتمع لم يكن له به سابق دراية، ولا وصل إلى علمه من تاريخه جميل آية، فكان ذهابه مغنمًا ثقافيًا، أضاء له طريق تسجيل صيد خاطرته، وما علق بذاكرته. الكتاب ولا ريب سيفتح للقراء نافذة من آلاف النوافذ على حضارة بلد عظيم، لا يمل المرء من القراءة عنها بإسهاب، والحديث عنها بإعجاب».

ستقرأ في الكتاب عن شؤون الصين والصينيين في: الشيوعية، والدين والإلحاد، والنظرة للعرب، والمسلمين فيها، والحكومة، والحياة، والعمل، ومؤشر السعادة لديهم، والحالة الثقافية، والفنون، والعمارة، والموسيقى، والغذاء، والمرأة، والتعليم.

وعلى صعيد آخر يشير الأستاذ عبد العزيز السليم إلى صعوبة التواصل مع الصينيين وخصوصًا السفارة الصينية في السعودية لطلب مشورة السفير الصيني حول ما كتبه في كتابه، كما أنه شكا من قلة الجمعيات العربية الصينية التي تجسر الفجوة الثقافية بيننا وبين الصينيين، والأخير ملحظ مهم تجب مراعاته.

وبما أن السعودية منفتحة على الصين بشكل إيجابي، فمن المناسب قراءة هذا السفر، الذي قدم الصين على طبق من حروف وكلمات.

أخيرًا، صديقي العزيز عبد العزيز، أعرف أنك ستكره ما كتبته عنك، وستصفه بالمبالغة، ولكنه بعض قليل من كم كبير مكثف من المعاني الإنسانية التي عرفتها فيك، أضف إلى ذلك أني كتبته حبًا، ورأس الحب الوفاء.