في بدايات القرن العشرين، وبعد نجاح «الأخوين رايت» في التحليق بأول طائرة ذات محرك احتراق في مدينة دايتون في ولاية أوهايو بالولايات المتحدة، انطلق عصر جديد أحدث تحولا في حياة الملايين من البشر، وبعد ما يزيد عن قرن من التطوير لتقنيات صناعة الطيران أصبح السفر بالطائرات هو الوسيلة الأسرع والأكثر أمانًا، وأمكننا من التنقل بين الدول بسرعة، واختصرنا شهورًا من المشقة والعناء في التنقل بين القارات، لنصل وجهتنا في بضع ساعات، وهكذا جعلت الطائرة العالم أصغر وأقرب. ولم يكن ذلك الاختراع المبتكر للسفر سهلا ميسورًا، بل استهلك ميزانيات فلكية، لتطوير تقنيات الطيران، استمرت منذ رحلة «الأخوين رايت» على متن طائرة مصنوعة من الخشب الخفيف والقماش، وحتى وصلنا إلى استخدام طائرات نفاثة ضخمة قادرة على حمل مئات الأطنان من البشر والبضائع، ليصبح السفر، ونقل البضائع بالطائرات، في منتهى السهولة والسرعة، وبتكاليف في متناول الأثرياء وأصحاب الطبقات المتوسطة، بعد أن ظلت لفترة طويلة مقتصرة فقط على الأثرياء والقادرين من نخَب العالم.

ومن الطيران انتقل التطور إلى قطاع الفضاء، بعد تكثيف الجهود للتوسع في تطوير تقنيات الفضاء، واتساع نطاق المنافسة الدولية في القطاع، وانفتاح المجال لدخول شركات القطاع الخاص للاستثمار في قطاع الفضاء، وخصوصًا بعد التوسع في استخدامات الأقمار الصناعية، وزيادة الاعتماد عليها في العديد من الأغراض والاحتياجات للمجتمعات الحديثة، فمن أقمار الاتصالات، ونقل البيانات، والبث التلفزيوني والإذاعي، إلى أقمار الملاحة الجوية والبحرية والبرية، إلى أقمار استكشاف البترول والمعادن ورصد الأرض، وغيرها.

كما اتجهت تكلفة السفر إلى الفضاء نحو الانخفاض التدريجي، وساهمت التكنولوجيا الحديثة في ابتكار وسائل أرخص وأوفر في السفر إلى الفضاء، وخصوصًا أمام أثرياء العالم، وبدأت شركات القطاع الخاص تنافس المؤسسات الحكومية في الاستثمار في معظم التطبيقات والتقنيات الفضائية، بعد أن كانت تعتبرها مجازفة بسبب ارتفاع حدة المخاطر، وقلة العائد الاستثماري على المدى القريب، ولهذا أصبحت صناعة الفضاء مثل عمليات تصنيع وتجميع وإطلاق الأقمار الصناعية تشكل رافدًا اقتصاديًا مهمًا للدول ولشركات القطاع الخاص بسبب زيادة الطلب عليها واعتماد التقنيات الحديثة عليها بشكل كامل. كما عزز إطلاق رواد الفضاء إلى محطة الفضاء الدولية، المردود الاستثماري لخدمة الكثير من المجالات العلمية والبحثية مثل تطوير تقنيات الطب، والفيزياء الحيوية، وعلم الجينات، والتي ساعدت البشرية في تحسين وزيادة جودة الحياة على الأرض، والمحطة الدولية التي ساهمت في بنائها مجموعة من الدول المتقدمة في مجال الفضاء، مثل: أمريكا وروسيا، هي عبارة عن منصة فضائية تدور في مدار الأرض المنخفض (حوالي 400 كم فوق سطح البحر). ولعل اختلاف البيئة المحيطة بمحطة الفضاء الدولية، وتوفر الجاذبية المتناهية الصغر، ولوجود عامل السقوط الحر المستمر، قد ساهم في تطوير عدة مجالات بحثية، من أبرزها تطوير تقنيات متقدمة للروبوتات واختبارها، وزيادة فهمنا لمشكلات طبية تتعلق بهشاشة وفقدان وترقق العظام والعمل على إيجاد حلول لمعالجتها، وكذلك تطوير اللقاحات ضد الفيروسات ودراسة سلوكها، وإيجاد حلول للوقاية من سرطان الثدي، وتطوير حلول متقدمة لعلاجها، ومراقبة جودة المياه، وتحسين نقاء وجودة الهواء على سطح الأرض، ورصد الكوارث الأرضية والتخفيف من أضرارها، ودراسة سلوك الموائع لغرض تطوير وتحسين الأجهزة الطبية.

إن التقدم العلمي والتكنولوجي الكبير الحاصل في مجال الفضاء اليوم، لم نكن لنجنيه لولا الاستثمار العالمي النشط منذ خمسينيات القرن الماضي في هذا القطاع، وبلغت مصروفات وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) على برنامج «أبولو» حوالي 4% من ميزانيات الحكومة الفيدرالية الأمريكية بين عامي 1964-1966، لإطلاق أول رائد فضاء للهبوط على سطح القمر، وذلك خلال فترة السباق نحو الفضاء أثناء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي آنذاك.

وإذا كان تخصيص مثل تلك الميزانيات الضخمة لمشاريع الفضاء بدافع سياسي وإستراتيجي، فإنه أتى بثماره على المدى البعيد في خدمة قطاعات أخرى كالدفاع والأمن والاتصالات والصناعة والطب وغيره، استفادت بشكل مباشر وغير مباشر من تكنولوجيا الفضاء.