من مُقومات الصحة النفسية وأعمدتها الرئيسة الأسرة، كونها صانعة خارطة الطريق لحياة الفرد وقاعدة الخبرات المُبكرة والتكوين النفسي والجسدي والاجتماعي. تتشكل مسارات حياة الفرد من خلال كيانه الأسري، كون الكيان الأسري يشمل مرحلتين من أهم مراحل النمو للشخص، ألا وهما الطفولة والمُراهقة، المتبوعتان بمرحلتين أُخريين وهما الرشد والكبر، فإن صلحت القاعدة بفترتيها الطفولة والمُراهقة، فلا شك أن الرشد والكبر سيكونان بنفس الاتجاه، والمُحصلة حياة ذات معنى وبها جودة، لتُفضي لسعادة.

عند صناعة قرار الزواج بين شخصين، فإن هناك العديد من الجوانب التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار قبل الارتباط «كبنى تحتية»، فلربما أعتقد البعض أن الزواج ليس إلا منشط من مناشط الحياة المُختلفة لا بد منه، فقد وصفه البعض بأنه «شر لا بد منه» ويغفل السواد الأعظم من الناس من أن هناك مُخرجات للزواج في منتهى الأهمية وهي تكوين أسرة من الأبناء، لك الحق أن تتزوج ولكن ليس لك الحق أن تنجب ألا بثبوت صلاحيتك للإنجاب. هناك تساؤل، هل الزوج و الزوجة صالحان لأن يكونا أبا و أما؟ من حق الجميع في البعد الغريزي والعاطفي وتلبية الاحتياج «أيا كان نوعه» البحث عن شريك والارتباط به، وهو لا شك مطلب شرعي قبل ذلك ودنيوي، ولكن من حق «الذرية» أن تأتي لهذا العالم من خلال زوج وزوجة صالحين، يدركان تماما معنى وأبعاد «التكوين الأسري الصحي»، مثل هذا المطلب الحيوي الحاسم لا يُترك لعامل التعلم أو المُحاولة أو التقليد والمُحاكاة أو الصدف، وإنما من خلال تخطيط مسبق في غاية الدقة، فهناك زواج وارتباط كاستجابة لمُتطلبات واحتياج ولا غبار على ذلك، وهناك زواج «مسؤول» يُفضي «لمسؤولية عظمى» وهي وجود الذرية من الأبناء. هناك معايير لا شك لاختبار الصلاحية للإنجاب، ففي حالة انعدامها وفقاً لتلك المعايير، فالإنجاب لا يصح، هنا على الزوجين السعي لامتلاك تلك المعايير بداية، فبالإمكان اكتسابها وتنميتها وفقاً لبرامج تُعد خصيصا لذلك وفي حالة وجودها، فيجب تعزيزها بتطور أنماط الحياة، ولذا تحتاج لتغذية «Boosts» مدى العمر، يأتي الكل في ثنايا برامج «تنمية الصحة النفسية وتعزيزها»، لجودة حياة، تقود لسعادة يستحقها الجميع.

تتكون الأسرة بداية من قطبين، رجل وامرأة، ليسا متفقين، بل هما مختلفان في شتى الجوانب، جينات مُختلفة وبيئات مُتنوعة وخبرات مُتباينة، وسمات وخصائص شخصية غير مُتفقة وقدرات إدراكية ومعرفية وأفكار ومُشاعر واتجاهات ورغبات ودوافع وميول غير مُتطابقة، ففي حالة اجتماع «القطبين» بهذه السلسلة من التباينات والفروق والاختلافات، فالحاجة ماسة لإعداد وتأهيل وتوطين القطبين للتعايش من خلال تعليم وتعلم وتدريب، الهدف من هذا كله إكساب كليهما مهارات التعايش الثنائي «Couple» العائلي النووي بداية، ومن ثم لتكوين أسرة مُمتدة تجمع الجميع في ظل هذا الاختلاف والتباين. لا يوجد هناك تطابق بين القطبين البتة والتطابق يعني مظلومية أحدهما على حساب الآخر، إنما هناك سوائية «Normality» وقاعدتها أن يلتقيان في مُنتصف «طريق» بثبات على المُنتصف، لربما ذهبا قليلا، مُتأرجحين هنا وهناك، لصالح أي قطب منهما بتبريرات ومن ثم العودة للمُنتصف والحفاظ على البقاء فيه، لن يأتي مثل هذا نتيجة الصدفة والتلقائية والعفوية وإنما من خلال مهارات تُكتسب كما أسلفت.

عندما يُقرر الزوجان إنجاب أطفال فهناك شروط والتزامات لا بد من تحقيقها قبل ذلك، والتي تتمثل في مُقومات الحياة المادية، لصلة العالم المادي بإشباع الحاجات الأساسية والصحة والتعليم والترفيه للأبناء، وأن يحصلا على درجة عالية من مقياس التوافق الزواجي والأسري، الدرجة المُنخفضة على هذا المقياس قد تؤهل للزواج وليس للإنجاب، فالبعد شاسع بين من يصلح للزواج ومن يصلح للإنجاب. يُقال في العموم «لا تجني من شجرة الشوك العنب»، يُقابله قانون نفسي - أسري مُؤداه «أن الأسر المُهشمة لا تُخرج في الغالب إلا ذرية بذات السياق»، ولك أن تتخيل نوع وحجم المُعاناة وشكلها ومُحتواها، فكما أسلفت في مقال سابق، فإن الخبرات السابقة السيئة والصدمات المُبكرة والأزمات الأولية هي قاعدة «الشر» لنشأة الاضطرابات النفسية والعقلية وسوء جودة الحياة، والأسرة المُهشمة من يصنع الجميع. من شروط الإنجاب التثقف وسعة الاطلاع في عالم الطفولة والمُراهقة في أبعاد الجميع، الحيوية والنفسية والاجتماعية وحضور الدورات التدريبية الهادفة ذات العلاقة وزيادة جرعات الوعي النفسي، ليس من أجل الذرية فحسب وإنما يشمل الأمر الزوجين في علاقتهما ببعض، فقبل الإنجاب ليس كبعده.

عجبت «لجون» ذلك الزميل البريطاني، عندما أخبرني بتغيرات عدة في حياته، شملت التخطيط لتغيير البيت والسيارة ونمط العمل ونوعية الحياة والذهاب لدور الكتب لشراء كتب الطفولة، والتخطيط لحضور دورات نوعية في ذات المسار، وعند سؤاله ولماذا هذا كله؟ أفاد أنه وزوجته «سارا» قررا إنجاب طفل، فتذكرت ذلك الأب الذي لديه أربع من النسوة وأربعة «درازن» من الأبناء والبنات، يتعرف عليهم بسؤال الواحد لمن يتبع من النساء!!!

تُعتبر الأسرة قاعدة البناء النفسي السليم للشخص، من هنا فالحاجة ماسة لوعي نفسي - أسري في صُنع أسرة سوية صالحة للإنجاب، يتجاوز الأمر كله، إلى التفكير في استصدار رخصة اسمها «رخصة الإنجاب» تُعطى من هيئة مُتخصصة في الشأن النفسي والأسري والاجتماعي بتأهيل علمي وتدريبي مُكثف لمن يرغب في الأبوة والأمومة، لحياة نفسية سوية، للحديث بقية.