الدين أمر فطري، ومن أولى أولوياته تنظيم علاقات الناس مع خالقها، وكذلك مع بعضها، وذلك من أجل صلاح الإنسان وإسعاده، وهو حر فيما يعتقده بنص محكم من عند الخالق جل جلاله، في سورة البقرة: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}، وقوله سبحانه في سورة الكهف: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا}، وليس لبشر أي سلطان على أي أحد في الأمور المتعلقة بإيمانيات الناس وعقائدهم، فهذه أمور عذر المولى سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم منها ومن تبعاتها؛ ففي سورة النور نقرأ: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين}، ونقرأ في سورة الغاشية قوله سبحانه وتعالى: {فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمصيطر}، صلوات ربي وسلامه عليه.
كل النصوص؛ ما ذكرته هنا، وما لم أذكره، تؤكد على أن الله سبحانه وتعالى، لم يجعل لأي أحد سلطة في تقرير ما يجب على الإنسان اعتقاده، ولا يسوغ لأحد ادعاء الحق في هذا الأمر، وليس للإنسان إلا الموعظة بالحسنى، والدعوة والإرشاد بالتي هي أحسن، وبالحكمة ودون تنفير، ودون ادعاء أحد لملكية الحق، ودون زعم أن الفهم المتاح هو فهم واحد، ولا يصح غيره، وهو الذي عندي وحدي، وغيري ضدي، ومن هو ضدي سأضعه ضمن تصنيف خاص به، ولا يهمني في سبيل ذلك إقصاؤه، ولا يضرني في تحقيق ذلك تأليف قصص وهمية، أو الاعتماد على أمور سماعية مثلا، لا وجود لأي بينات عليها.
بدأت بالإمام أبي حنيفة النعمان، وأختم به كذلك.. يذكر الخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد)، عن الحسن بن زياد اللؤلؤي، يقول: سمعت الإمام أبا حنيفة، يقول: «قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا»؛ وهو الدرس الواضح لكل البشر في أن الاحتكار كما أنه مرفوض دنيويا، هو كذلك مرفوض دينيا، ولا وصاية للناس على بعضها، والحق لا يمكن اختزاله، والحكم في هذه الأمور الدقيقة مرجعه إلى المطلع وحده على قلوب الناس، وهو الله وحده، القائل في سورة الحج: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد}.