يقول أفلاطون على لسان سقراط في أول سطر من أول صفحة في كتاب «الجمهورية» الشهير للغاية: «كنت قد هبطت مع جلوكون بن أرستون إلى منطقة بيرايوس، ناويا تأدية فروض الصلاة إلى الآلهة» ففي أول صفحة من الكتاب يصور لنا سقراط (على افتراض أنه شخصية حقيقية) الطقوس الدينية للمجتمع اليوناني، وهنا إشارة غير مباشرة لارتباط الثقافة بالدين في أي مجتمع، عكس ما يعتقده المفكر المصري نصر حامد أبو زيد في تصنيفه التبسيطي للحضارات عندما اختزل الحضارات الثلاث، الإسلامية واليونانية والمصرية القديمة، تحت عناوين غارقة في التبسيطية قائلا: «إذا صح لنا بكثير من التبسيط أن نختزل الحضارة في بعد واحد من أبعادها لصح لنا أن نقول إن الحضارة المصرية القديمة هي حضارة ما بعد الموت، وإن الحضارة اليونانية هي حضارة العقل، أما الحضارات العربية الإسلامية فهي حضارة النص». لا شك أن هذا الاختزال يفتقر لكثير من الفهم للعلاقة المتداخلة بين الثقافة والدين، وكيف يؤثر أحدهما على الآخر، فالدين والفلسفة والفن لا تتطور وتتفاعل بمعزل عن بعضها، وخصوصا عند المجتمعات القديمة. فالفلسفة كشكل من أشكال الحضارة تتشابك مع المعتقدات الدينية للمجتمع بشكل لا يمكن تمييزه، فلا يمكن وضع الفلسفة في مناطق معزولة عن بقية أشكال الثقافة.

ووصفه للحضارة اليونانية بأنها حضارة عقل، يقصي كل مناشط الثقافة عن التأثير والتفاعل مع عملية التفلسف، كون الفلسفة أهم مظهر من مظاهر الحضارة اليونانية وثقافتها، وأهم مؤثر في جانب الثقافة هو الدين، فهو الوجه الخفي للتفكير في المجتمع اليوناني، والقاسم المشترك في صناعة الأفكار بين أفراده وتشكيل الهوية المشتركة لهم، ويختصر تي إس إليوت العلاقة بين الثقافة والدين بقوله: «لا يمكن أن تظهر ثقافة أو تنمو إلا وهي متصلة بالدين»، وهذا ينطبق على الثقافة اليونانية وبقية الثقافات بطبيعة الحال.

وحتى الثقافة الأوروبية الحديثة لم يكن العقل والتطور والتنوير هو المشكل الأوحد لها، فقد لعبت المسيحية دورا كبيرا في الوحدة الثقافية للدول الأوروبية، فالمسيحية بالنسبة لأوروبا مكسب وموروث حضاري، ولها تأثيرها العميق في كل فلسفات النهضة في أوروبا، وهذا التأثير العميق للمسيحية متداخل مع العقل والعقلانية اللتين تميزت بهما الفلسفة الغربية الحديثة.


وقد تناول الشاطبي في كتابه «الاعتصام» العلاقة الجدلية بين العقل والنص أو العقل والدين في الفلسفة اليونانية، ووضح كيفية حضور النص في فلسفتهم قائلا: «ولا يغترن ذو الحجى بأحوال الفلاسفة المدعين لإدراك الأحوال الأخروية بمجرد العقل قبل النظر في الشرع، فإن دعواهم بألسنتهم في المسألة بخلاف ما عليه الأمر في نفسه، لأن الشرائع لم تزل واردة على بني آدم من جهة الرسل، والأنبياء لم يزالوا موجودين في العالم، وهم أكثر، كل ذلك من لدن آدم عليه السلام إلى أن انتهت بهذه الشريعة المحمدية، غير أن الشريعة كانت إذا أخذت في الدروس بعث الله نبيا من أنبيائه يبين للناس ما خلقوا لأجله وهو التعبد لله»، فالشاطبي يؤكد أن الأديان كانت موجودة في تلك الأزمنة الغابرة ويؤكد تأثر الشعوب والأمم بها في مجرى حياتهم، بل إنه يؤكد أن أغلب الفلسفات اليونانية في حقيقتها متأثرة بنصوص دينية حتى وإن ظهرت بمظهر العقل بقوله: «فلا بد أن يبقى من الشريعة المفروضة -ما بين زمان أخذها في الاندراس وبين إنزال الشريعة بعدها- بعض الأصول معلومة، فأتى الفلاسفة إلى تلك الأصول فتلقفوها، أو تلقفوا منها، ما أرادوا أن يخرجوه على مقتضى عقولهم، وجعلوا ذلك عقليا لا شرعيا، وليس الأمر كما زعموا، فالعقل غير مستقل البتة، ولا ينبني على غير أصل، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلم على الإطلاق».