ما من متأدب يحفظ شيئا من شعر المتنبي إلا وجد نفسه ذات يوم يردد هذا البيت لأبي الطيب:

لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليسعد النطق إن لم يسعد الحال

نردد هذا البيت ساخرين أو معتذرين أو مشتكين حسب الموقف والمقام، معتبرين أن الكلمة المنطوق بها أدنى قيمة من المال وأن الجود بها عطاء من لا قدرة له على غيرها.


ولا شك في أن هذا التقييم للكلمة صحيح في أكثر الأحيان، إلا أن ثمة أحياناً أخرى تعدل فيها قيمة الكلمة قيمة المال المعدود، وربما فضلت عليه، ويصح هذا حتى عند من يحسبون للمال حسابه، ومن يتمنون الإكثار منه، فقد تكون حاجة واحد من هؤلاء في ظرف ما إلى كلمة طيبة أو إلى جملة مؤثرة أشد من حاجته إلى مال يعطاه.

أقمت منذ سنين عديدة فترة طويلة في باريس كنت أتردد أثناءها في أخريات الليالي على مقهى صغير اسمه «شيه أدريين» يقع قريبا من فندقي في حي مونبارناس. كان المقهى مفتوحا لرواده طيلة الليل وتلجأ إليه زمر من الساهرين بعد انتهاء حفلات المسارح والملاهي ليتموا فيه ليل باريس الذي لا انقضاء له. اسم النادل الليلي لذلك الملهى نيكولا وهو كورسيكي الأصل، ولم أكن شخصيا من زبائن نيكولا المفضلين فقد كنت أرفض دوما أنواع الأشربة الكحولية التي يقترحها علي وأكتفي بزجاجة من الكولا أو من عصير الفواكه، وبذلك كان نصيبه من البخشيش مني أقل بكثير مما يغدقه عليه الرواد الآخرون.

جئت مرة بعد منتصف الليل إلى هذا المقهى وجلست في زاوية منه أمارس هوايتي المحببة إلى نفسي وهي ملاحظة أصناف المترددين والمترددات عليه، والاستماع إلى أحاديثهم والتأمل في تصرفاتهم بعين الفضولي الطلعة الذي يجد لذة في التعرف على كل ما يقع عليه بصره، ووقف نيكولا على رأسي ليسألني عما أشرب، كان الإجهاد باديا بوضوح على ملامحه، ولا غرو فقد كنت أعرف أنه منذ الأصيل يدور كالمكوك بين البار وقبو الأشربة، ومقاعد الزبائن الذين هم في تجدد دائم. إذ لا يلبث واحدهم في قاعة المقهى المزدحمة إلا ريثما يحتسي كأسه ثم يخرج إلى شوارع الحي الصاخبة تاركا مكانه إلى وافد جديد. قلت للنادل جواباً على سؤاله: كأس عصير.. ولكن! قال: ماذا؟ قلت: أردت أن أقول إنك متعب يا نيكولا... لا بد أن يومك كان شاقا!

الصحيح أني لم أفطن للهجة التي قلت بها لنيكولا هذه الكلمات البسيطة، ولكني أذكر أني نطقت بها بحرارة وأن إشفاقي على ملامحه المكدودة كان صادقا، ورأيته يعتمد بكفيه على المنضدة التي تفصل بيني وبينه بعد أن وضع عليها ما كان يحمله من صينية وكؤوس فارغة، ثم يقول: مضت لي أعوام في هذا المقهى ولم أسمع من أحد كلمة لطيفة كهذه التي قلتها لي، لحظة شكرا يا سيدي، شكراً! والتفت إلى فتاة كان مجلسها مع رفيقها يجاور مجلسي، وقال لها وهو يشير إلي انظري يا آنسة.. ألا ترين معي أنه أجمل فتى في باريس؟

ضحكت يومها من عبارة نيكولا التي قالها بحماس، وبالطبع لم يبلغ بي الغرور أن أصدق فحواها فأعد نفسي من فتيان باريس المتصفين بالجمال، ولكني كلما تذكرت هذه الواقعة عرفت أن كلمة مناسبة في موضعها يمكن أن تعدل المال، أو أن تفوقه في بعض الأحيان، وقد أكدت لي هذا الذي أقوله حادثة صغيرة حدثت لي في آخر زيارة لي لمدينة عمان بينما كنت أنتقل من المطار إلى فندقي في العاصمة الأردنية، يبعد مطار عمان الجديد عن قلب المدينة مسافة تقارب الأربعين كيلومتراً، وفي هذه المسافة الطويلة كان لا بد من أن يدور الحديث في أمور شتى بيني وبين سائق سيارة التاكسي التي كنت راكبها الوحيد، سألني ذلك السائق عما إذا كنت أزور عمان لأول مرة، قلت له طبعا لا فأنا أتردد إليها بين عام وآخر منذ 20 سنة قال: إذن فأنت ترى مثلي كيف تزداد عاصمة بلدنا اتساعاً عاماً بعد عام قلت: كل مدن العالم آخذة في الاتساع.. في عمان مثلا أنا أجد أن دواراتها وهي الجواد العريضة التي تحيط بمركزها القديم تزداد دواراً جديداً في كل عودة إليها في العامين والثلاثة، فأمن السائق على كلامي وراح يشير إلى طلائع أبنية المدينة حين بلغناها واصفا لي فخامة الدور التي يتنافس الأثرياء في إشادتها في أطراف العاصمة، وهز رأسه وهو يضيف قائلا: نعم يتنافسون في سعة القصور وتعداد غرفها، وآخر ابن آدم إلى حفرة سعتها ذراع في ذراعين قد يجدها وقد لا يجدها قلت له: الحق معك وفي التاريخ القديم حكاية بهذا المعنى لا أدري إذا كنت تعرفها قال: تفضل واحكها لي قلت: كان أحد الخلفاء منفردا بنفسه في ساعة القيلولة فطلب مني حاجبه أن يدخل إليه من يجده بباب القصر ليبادله الحديث، ولم يكن على الباب في تلك الساعة غير شيخ فقير طلب إليه الحاجب أن يتبعه فتبعه هذا سائراً وراءه ومخترقا أورقة قصر الخلافة والأبهاء والغرف الكثيرة واحدة بعد واحدة حتى انتهى إلى القاعة التي كان يتصدرها الخليفة، قال له هذا حين وقعت عينه عليه: ما عندك لي يا شيخ؟ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين:

أما بيوتك في الدنيا فواسعة

فليت قبرك بعد الموت يتسع!

فما كان من الخليفة عند سماعه هذا إلا أن قبض على لحيته وانخرط في البكاء..

أعجب السائق بحكايتي هذه أو ببيت الشعر الذي انتهت به وراح يستعيد مني ذلك البيت المرة تلو المرة، بل إنه أخذ يردده كأنه يريد حفظه هازاً رأسه وهو يقول كالمحدث نفسه: «فليت قبرك بعد الموت يتسع!». واستمر في ذلك حتى وقف بسيارته بي أمام الفندق ولما سألته عما هو مطلوب مني لقاء المشوار من المطار إلى الفندق قال: تعرفتنا يا سيدي 6 دنانير، ولكني أكتفي منك بخمسة دنانير ضحكت وقلت: ولماذا هذا التخفيض؟ أهو ثمن بيت الشعر؟ قال وهو يبتسم: نعم إنه بيت الشعر، إنه يسوى أكثر من دينار يا سيدي!