البشر يضجون كالعاصفة، وأنا أتنهد بسكينة، لأني وجدت عنف العاصفة يزول وتبتلعه لجة الدهر أما التنهدة فتبقى ببقاء الله البشر يلتصقون بالمادة الباردة كالثلج، وأنا أطلب شعلة المحبة لأضمها إلى صدري، فتأكل ضلوعي وتبري أحشائي، لأني ألفيت المادة تميت الإنسان بلا ألم، والمحبة تحييه بالأوجاع.
البشر ينقسمون إلى طوائف وعشائر وينتمون إلى بلاد وأصقاع. وأنا أرى ذاتي غريبًا في بلد واحد، وخارجًا عن أمة واحدة. فالأرض كلها وطني والعائلة البشرية عشيرتي، لأني وجدت الإنسان ضعيفًا ومن الصغر أن ينقسم على ذاته، والأرض ضيقة ومن الجهل أن تتجزأ إلى ممالك وإمارات.
البشر يتكاتفون على هدم هياكل الروح ويتعاونون على بناء معاهد الجسد، وأنا وحدي واقف في موقف الرثاء على أنني أصغي، فأسمع من داخلي صوت الأمل قائلًا: «مثلما تحيي المحبة القلب البشري بالأوجاع كذا تعلمه الغباوة سبل المعرفة. فالأوجاع والغباوة تؤول إلى لذة عظيمة ومعرفة كاملة، لأن الحكمة السرمدية لم تخلق شيئًا باطلا تحت الشمس».
أحن إلى بلادي لجمالها وأحب سكان بلادي لتعاستهم، ولكن إذا ما هبّ قومي مدفوعين بما يدعونه وطنية وزحفوا على وطن قريبي وسلبوا أمواله وقتلوا رجاله ويتموا أطفاله ورملوا نساءه وسقوا أرضه دماء بنيه وأشبعوا ضواريه لحوم فتيانه كرهت إذ ذاك بلادي وسكان بلادي
أتشبب بذكر مسقط رأسي وأشتاق إلى بيت ربيت فيه، ولكن إذا مر عابر طريق وطلب مأوى في ذلك البيت وقوتًا من سكانه ومُنع مطرودًا استبدلت تشببي بالرثاء وشوقي بالسلوَ وقلت بذاتي: إن البيت الذي يضن بالخبز على محتاجه، وبالفراش على طالبه لهو أحق البيوت بالهدم والخراب.
أحب مسقط رأسي ببعض محبتي لبلادي. وأحب بلادي بقسم من محبتي لأرض وطني. وأحب الأرض بكليتي لأنها مرتع الإنسانية روح الألوهية على الأرض. الإنسانية المقدسة روح الألوهية على الأرض. تلك الإنسانية الواقفة بين الخرائب، الساترة قامتها العارية بالأطمار البالية، الذارفة الدموع السخية على وجنتيها الذابلتين، المنادية أبناءها بصوت يملأ الأثير أنة وعويلًا وأبناؤها مشغولون عن ندائها بأغاني العصبية، منصرفون عن دموعها بصقل السيوف. تلك الإنسانية الجالسة وحدها تستغيث بالقوم وهم لا يسمعون، وإن سمعها فرد واقترب منها ومسح دموعها وعزّاها في شدائدها قال القومُ، اتركوه فالدموعُ لا تؤثرُ بغير الضعيف.
الإنسانية روح الألوهية على الأرض. تلك الألوهية السائرة بين الأمم المتكلمة بالمحبة المشيرة إلى سبل الحياة والناس يضحكون مستهزئين بأقوالها وتعاليمها. تلك التي سمعها بالأمس الناصري.......، وسقراط فسمموه، والتي سمعها اليوم القائلون بالناصري وسقراط وجاهروا باسمها أمام الناس والناس لا يقدرون على قتلهم، لكنهم يسخرون بهم قائلين: السخرية أقسى من القتل وأمرّ.
ولم تقوَ أورشليم على قتل الناصري، فهو حيُّ إلى الأبد. ولا آثينا على إعدام سقراط، فهو حيُّ إلى الأبد. ولن تقوى السخرية على سامعي الإنسانية وتابعي أقدام الألوهية، فسيحيون إلى الأبد.. إلى الأبد.
1914*
* أديب لبناني «1883 – 1931»