يعرف العلماء المتخصصون أن الشريعة تعود وترجع إلى كلام عربي صريح، صادر عن الشارع الحكيم؛ عبارة عن نصوص محفوظة، تولدت منها أحكام، ارتبط بها الناس، في المشارق والمغارب، وقد تكون هذه النصوص متعارضة مع بعضها في الظاهر، مما يعني الحاجة إلى بذل الجهد في الجمع بينها، وإن لم يتيسر ذلك، فلا بد من اللجوء لوسيلة من وسائل الترجيح؛ كتخصيص العام بالخاص، أو تقييد المطلق بالمقيد، أو التأويل المتوافق مع مقاصد الشريعة..

يفقه المتخصصون كذلك، أن الشريعة ليست على وزن واحد، ومن هنا كان الذي منحه الله، سبحانه وتعالى، البصيرة ينظر إلى الجزئي منها من خلال الكلي، كما يقول العلماء الذين استوعبوا عمق مساحات الاختلاف في الآراء، وأنها الحاجز ضد الفوضى التي يمكن أن يقع فيها من لا يفهم البيئة العلمية، التي عاش فيها السابقون، وينبغي أن يعيش فيها من بعدهم، تفعيلا منهم لقول الله، عز وجل، في سورة المائدة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وقوله سبحانه في سورة الأنعام: {قَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا ٱضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَآئِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُعْتَدِينَ}..

ليس عيبا أن تكون هناك مراجعات عامة وخاصة، وهذا أمر سار عليه طلاب مدرسة معلم البشرية، صلوات الله وسلامه عليه، ورضي عنهم، وهم من علمونا ضرورة فهم العلاقة بين المصالح والمفاسد، ولو أهملناها ضعنا وسط محترفي التطرف، وهواة العبث، الذين لا هم لهم إلا أن يكره الناس بعضهم بعضا، وأحيانا بلباس ديني مزيف، لا يراعي المتزيي به التطورات التي يعيشها أهل هذا الزمن، ولا يريد أن يفهم أن الدنيا تعيش تعددات دينية وثقافية وإثنية، داخلية، وليست خارجية فحسب..

واقع دنيانا يفرض هجر الخيالات القديمة، والأوهام المستقبلية، والبعد عن فكرة أن يكون في الحياة منتصرا واحدا فقط، يلعب في ميدان متلاطم، قيمته العليا تتجلى في فسح وفتح كل الفرص للجميع، من أجل إصلاح الأرض، ومن عليها، وترك الجمود والتحجر؛ عقلا وفكرا، وهو ما حذر منه العلماء الربانيون، كالإمام الشهاب القرافي في كتاب «الفروق» المسمى «أنوار البروق في أنواء الفروق»: «الجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين»، والشيخ ابن القيم، رحمهما الله، في كتاب «إعلام الموقعين عن رب العالمين»: «الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل».

أختم بالتنبيه، بأنه وإن كانت الدعوة لما ذكرته تتضمن الانفتاح على العصر؛ فإنه لا يعني بحال القيام بتحويل الشريعة لمادة يتناولها غير المتخصصين، أو أن تتحول، ومن دون أي ضوابط، إلى ثقافة عامة، وترف ذهني، لا طائل من ورائه إلا زيادة إبهام عامة الناس، وإيقاعهم في حيرة، قد تمتد إلى خروج تام عن جادة الحق والصواب.