وعلى كلٍ، سآخذ الثقافة في هذا المقال حسب المفهوم القائل بأنها: «مجموعة القيم والأفكار والمواقف والرموز المشتركة والمكتسبة اجتماعيًا «مادية وغير مادية» والتي تنتقل من جيل إلى آخر، وتحدد السلوك البشري، وتقف خلف سلوكيات الناس، المناسب منها وغير المناسب، وتؤثر هذه المكونات بعمومها في الإنسان، الذي ينتمي إليها في لغته، وملبسه، ومأكله، ومعتقداته الدينية، وعلاقاته الاجتماعية، التي تشمل تركيبة الأسرة وعادات الزواج والعمل ونحوها»، مع عدم إغفال أن الثقافة تراكمية بطبيعتها، يضاف إليها بعض العادات، وتفقد بعضها، وهذا مؤدى كلام روجي باستيد.
والمشهد الثقافي السعودي عبارة عن فسيفساء لا تقبل الاختزال، أو الذوبان في بعضها، بسبب التنوع المناطقي والقبلي والطائفي، ورغم طبيعة هذا الاختلاف بين البيئات المتعددة، والتباين الثقافي والاجتماعي بين الأفراد، بحكم الطبيعة الجغرافية الشاسعة للسعودية من جهة، وبحكم العمق التاريخي الثقافي لمدنها وقراها من جهة أخرى، إلا أن روابط الدين واللغة والتاريخ، جمعت هذا التنوع عبر أداة مهمة وهو التعليم الرسمي بالمقام الأول، والذي اعتبره أقوى رابط ثقافي، ربط المناطق السعودية بعضها ببعض، عبر المناهج الدراسية، والمعلمين المتنقلين من مناطقهم الأصلية، إلى مناطق مختلفة، ثم يأتي بعد ذلك عمل بقية دوائر العمل الحكومي المختلفة، وهذا الأمر مع جوانب أخرى عديدة، خلق ثقافة رئيسة تجمع الكل، إلا أن الثقافات الخاصة والتي يمكن اعتبارها ثقافاتٍ فرعية، ظلت محافظة على وجودها، وظلت مستقلة تميز كل منطقة، أو تكوين اجتماعي معين عن غيره، وفي هذا ثراء ثقافي لا ينضب.
وعلى صعيد آخر، فقد ارتبط تطور المشهد الثقافي السعودي، بتطور وتحديث الدولة، والذي يصاحبه على قدم المساواة تحديث المجتمع، وعلى الرغم من حدوث بعد الانسدادات الحضارية، إلا إن عملية تحديث المجتمع بتحديث الدولة مستمرة، حتى صُدم الوجدان السعودي بحادثة الحرم المكي عام 1979، والتي قلبت الأمور رأسًا على عقب، وعلى الرغم من أن الدولة استمرت في عملية التطور والتحديث، إلا أن المجتمع توقف عند تلك اللحظة الزمانية وانطفأ تمامًا.
كان المجتمع السعودي يعاني من أزمة ثقافية حقيقية، امتدت من عام 1979، وحتى الثلث الأول من عام 2016، حينما جاءت رؤية السعودية 2030، لتقوم بعمل إصلاحي جذري، مبني على أسس وقيم راسخة، تستمد أصولها من جوانب الدين واللغة والتاريخ، عبر حزمة من الأعمال النوعية الناجحة لتحريك المجتمع نحو التطور والتحديث، مما خلق حركة دؤوبة في مختلف المجالات، تدعم التحول إلى تغيير ثقافي حقيقي، لتشهد السعودية اليوم أكبر طفرة في النشاط الثقافي والفني السعودي، فصارت الثقافة والسياحة والترفيه، رافدا مهما للاقتصاد الوطني، وهذا يحيلنا إلى القول بأن أي نهضة في المجالات السياسية والتشريعية والقضائية، والاقتصادية والعمرانية وغيرها، يصاحبها بالضرورة نهوض ثقافي على المستوى المجتمعي، يغربل الكثير من العادات والتقاليد والموروثات، التي ليس لديها الأصالة للصمود في وجه رياح التغيير، وهي عملية بالغة الصعوبة، والتعقيد مهما بدت سريعة وسهلة الحصول، بل في بعض الأحيان تكون هذه السرعة في التغير موهمة، وجسرا لتمرير الأيديولوجيات السابقة في أشكال جديدة، ومع هذا كله ما زال تحرك المجتمع متخلفًا عن مواكبة حركة الدولة في التحديث، ولعل الأيام القادمة كفيلة برفع وتيرة سرعة المجتمع لتواكب التغيير كما ينبغي، وربما كان هذا التباطؤ غير المفهوم أحيانًا، بسبب أن أي مرحلة تغيير يصاحبها ممانعة ناتجة من القلق تجاه المجهول وهو المستقبل.
إن الظروف السياسية والاقتصادية اليوم، تحتم على الدولة العمل على التغيير الثقافي في المجتمع، وهذا كما هو معلوم سيولد مجموعات تقاوم مسألة التغيير، ولذلك فلا بد من الوقوف في وجه من يقاوم ذلك التحديث والتغيير، وهذا يكون من خلال التالي:
أولا: إيجاد مؤسسات تشرف على التغيير وتدعمه في أجهزة الدولة.
ثانيا: نشر مبادئ وأفكار رؤية السعودية 2030، من خلال الإعلام التقليدي والجديد.
ثالثًا: إجراء تغييرات جذرية في الإعلام التقليدي، من خلال تغيير البرامج الرتيبة والمستوردة التي ليست لها صلة بالمجتمع.
رابعًا: السعي نحو تنظيم المعلومات وتدفقها في الإعلام الجديد، ووضع تشريعات ضابطة له.
إن انطلاق وزارة الثقافة في يونيو 2018، لتعنى بالمشهد الثقافي على الصعيدين المحلي والدولي، وتحرص على حفظ التراث التاريخي، وتسعى لبناء مستقبل ثقافي غنيّ، تزدهر فيه مختلف أنواع الثقافة والفنون، يعتبر من أهم الأحداث الثقافية السعودية خلال مسيرتها، وهذا يجعلها أمام تحديات كبيرة، تحتاج إلى عمل جاد ومعمق، وأحسبها قامت بالكثير الصعب، وبقي القليل، وفي مقدمته أكبر أزمة تُعاني منها الحالة الثقافيَّة السعودية، وهي أزمة التسويق على المستوى العالمي.
كما أن على المجتمع والنخب الثقافية فيه دورا مهما، وهو العمل على استحداث، وإلغاء، وتعزيز قيم جديدة داخله، وهذه العملية هي عملية أقرب ما تكون إلى طبيعة الحرب، وهي بلا شك تضحيات كبيرة وجسيمة، ويجب أن نكرر على أنفسنا التساؤلات التالية، ويجب أن نقتحمها بكل جسارة:
ما القيم التي يجب أن نعززها؟ وما القيم التي يجب أن نلغيها ونحذفها من القاموس السعودي؟ وما القيم الجديدة التي يجب أن نفسح لها المجال للدخول إلى عقل المجتمع السعودي؟.. والأهم في هذه المرحلة هو سؤال: ما التضحيات القيمية التي يجب ألا نقدم عليها؟
أخيرا، السعودية عازمة على جعل أرضها أرضًا للثقافة والسياحة والترفيه، في محيطها الإقليمي، انطلاقًا نحو العالمية، فلنكن مواطنين صالحين، ونساعد هذه المهمة الطموح، بكل ما أوتينا من قدرات وإمكانيات.