كما أن كل مناطق المملكة تمتلك حصة من المؤسسات التعليمية الجامعية بناءً على المعطيات السابقة، والجدير بالذكر هنا هو نجاح منطقة القصيم في هذا القطاع الحيوي، حيث تحتضن جامعة القصيم الحكومية وهي إحدى أكبر ثلاث جامعات حكومية من حيث عدد الطلبة والكليات. وكذلك من القطاع الجامعي الأهلي، جامعتي المستقبل وسليمان الراجحي، كذلك كليات بريدة وكليات عنيزة وكلية الغد للعلوم الطبية التطبيقية، على الرغم أن القصيم تصنف بالمرتبة السابعة بين مناطق المملكة من حيث عدد السكان، والحادية عشر من حيث المساحة. ويُتوقّع أن سِرَّ النجاح في هذا النوع من الاستثمار بالقصيم يتمثل في السمعة العالية، وفي ثقة الكثير من المجتمع السعودي في منطقة القصيم لتقديم خِدْمَات تعليمية ذات جودة مُعتبرة، وأيضًا المستثمرون بالمنطقة من ذوي النَّظرة الجريئة في هذا الاستثمار منذ بداية سن قوانين وتشريعات إنشاء الجامعات والكليات الأهلية. ومن جانب آخر، الرسوم الدراسية في جامعات وكليات القصيم الأهلية تُعدُّ بشكل كبير منخفضة، وقد تكون غير ربحية في بعضها مع الكثير من قنوات التسهيل المالي وبرامج المنح الدراسية، مما يدل على الفاعلية في كفاءة التشغيل والإنفاق في المشروعات الاستثمارية التعليمية، الذي نتج عنه استدامة هذه المؤسسات خلال السنوات العشرين السابقة.
وهذا الحال قد يكون مُشاهدا في كثير من الدول مع الاختلاف في التشبيه من حيث قوة المؤسسات التعليمية وجودتها، وهنا المثال على ولاية ماساتشوستس الأمريكية وعاصمتها بوسطن التي تعرف بـ "موطن التعليم عالي الجودة" على مستوى العالم، وتُصنَّف هذه الولاية بالمرتبة الرابعة عشر بين الولايات من حيث التعداد السكاني، ولكن تمتلك تقريبًا 150 جامعة وكلية يُصنَّف بعضها من الأقوى على الصعيد العالمي، مثل جامعة هارفارد العريقة، ومعهد ماساتشوستس للتقنية وجامعة بوسطن وغيرها. والحال في مدينة بوسطن يتكرر في مدن أخرى معروفة بأنها مدن مميزة للدراسة، وتمتلك الكثير من الجامعات ذات الجودة العالية، بالرغم أنها ليست عواصم، أو ليست الأكبر في بلدانها، مثل مدينة مونتريال الكندية وملبورن الأسترالية وهونج كونج في الصين.
ومما سبق، يُفترض أن تكون النَّظرة موضوعية وذات جدوى بعيدة المدى عند تحديد العوامل المؤثرة التي يجب أن تُؤخذ بالاعتبار عند التفكير في استحداث الجامعات والكليات الأهلية، وقد تكون كالآتي:
الكثافة السكانية مع مراعاة الشريحة العمرية للتعليم الجامعي (من 17 سنة إلى 24 سنة).
الموقع الجغرافي وجودة الحياة، أصبحت جاذبة ليس للتعليم فقط، وإنما للعمل والاستثمار. الموقع الجغرافي الذي يتمثل بالقرب من المناطق والمدن الحيوية سوف يكون مقصدًا وغاية للكثير من المستهدفين. ثم إن جودة الحياة تعد عاملًا مؤثرًا تتمثل في توافر خيارات السكن، والمواصلات والخِدْمَات المعيشية المتوفرة، ووسائل الترفيه.
النَظْرة الاقتصادية الحالية والمستقبلية للمناطق والمدن هي واحدة من المعايير الهامة التي دخلت بقوة للنظر في جدوى استحداث جامعات وكليات أهلية، حيث يتم النظر فيها لاحتياجات سوق العمل المتغير والشركات الناجحة والنمو الاقتصادي والتجاري.
ثقافة وهُوِيَّة مجتمعات المدن والنظرة تجاه بعض المجتمعات أصبحت معيارًا يُؤخذ به. ومن المُسلّم به مسبقًا أن للطبيعة الثقافية والسياسية لبعض المدن أو التجمعات السكانية دورًا في تحديد جدوى استحداث الجامعات والكليات، حيث إن بعض المدن جاذبة للمستهدفين من الطلبة وأُسرهم لما تمتلكه من سمعة عالية في التعليم والنجاحات المتوالية في تقديم خِدْمَات تعليمية وتأهيلية نوعية.
السعودية بعدد سكانها الذي يقدر بنحو 32 مليون نسمة (19مليونًا منهم سعوديون) تحتضن 30 جامعة حكومية، 15 جامعة أهلية، 13 كلية أهلية مستقلة، 9 مجمعات لكليات أهلية، مُضافًا إليها العشرات من الكليات والمعاهد التقنية المنتشرة بجميع المدن والمحافظات. وبالمقارنة مع بعض الدول، ماليزيا لديها أكثر من 150 جامعة وكلية، بالرغم أن عدد سكانها يماثل عدد سكان السعودية، وإيطاليا تمتلك أكثر من 100 جامعة، بالإضافة إلى العديد من الكليات المستقلة، وعدد سكانها يزيد عن السعودية بعشرين مليون نسمة فقط. وأستراليا تمتلك أكثر من 180مؤسسة تعليمية عُليا، بالرغم أن عدد سكانها لا يزيد عن 27 مليون نسمة. وإسبانيا التي تمتلك تقريبًا 90 جامعة وعددًا كثير من الكليات المستقلة، لا يزيد عدد سكانها عن السعودية إلا بنحو 9 ملايين نسمة فقط. ودولة كندا التي تمتلك 223 جامعة بعدد سكان لا يتجاوز 39 مليون نسمة.
وهذه دلالة على أن السعودية قد تحتاج إلى استحداث الكثير من الجامعات والكليات خلال السنوات القادمة مع التركيز على تخصصات مستقبلية نوعية تتناغم مع احتياجات سوق العمل المتغير بوتيرة متسارعة، والقطاع الخاص سوف يكون له النصيب الأكبر في هذا القطاع الاستثماري الواعد والمستهدف مستقبلًا. وهذا الطلب المتوقع سوف يكون واقعيًا في ظل الزيادة المتوقعة في عدد السكان من المواطنين والمقيمين خلال السنوات العشر القادمة، وكذلك الاستثمار الواعد في العديد من القطاعات الصناعية والخِدَميَّة الحيوية في ظل النجاح المستمر في تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030، وعلى وجه الخصوص المرتبطة بتطوير وتنمية المجتمع والاقتصاد الوطني. أيضًا سمعة المملكة على مستوى الشرق الأوسط في جودة التعليم العالي والبحث العلمي أصبحت في أفضل مراحلها التاريخية، وهذا ما نتج عنه التصنيف العالي للكثير من الجامعات السعودية على نطاق عالمي. لذلك هناك زيادة ملحوظة في الراغبين بالدراسة الجامعية من قِبَل المقيمين، وكذلك السماح للجامعات بالتعاون مع الجهات الرسمية ذات العِلاقة بإصدار تأشيرات لغرض الدراسة الجامعية لغير السعوديين من خارج السعودية.
من وجهة نظري أعتقد يجب دراسة وتحديث العوامل المؤثرة بدقة عند استحداث الجامعات والكليات، ووضع خريطة تفصيلية لاحتياجات المملكة من قطاع التعليم الجامعي والتدريب خلال السنوات العشر القادمة، ولعل لوزارة التعليم دورًا في تنظيم ورش عمل وندوات لدراسة الواقع والمستقبل في نمو هذا القطاع الحيوي وتقديم التوصيات حيال هذا الشأن الهام للمجتمع والاقتصاد الوطني تماشيًا مع رؤية المملكة الطموحة 2030. كما يُفترض دراسة خصائص وجوانب النجاح في بعض المؤسسات التعليمية والمدن في الاستثمار بالقطاع التعليمي الجامعي، حتى تكون الزيادة في عدد الجامعات والكليات مستقبلًا من خلال خطط مدروسة وتوصيات محكمة لتجنب الخلل في الاستثمار التعليمي، وفي تقديم تعليم منخفض الجودة يؤثر سلبًا على سمعة ومكانة المملكة التعليمية وكفاءة المخرجات التعليمية.