من نافلة القول إن المثقف غير المؤدلج دينياً أو عنصرياً أو طائفياً، هو اليوم أتعس الناس في مجتمع دول العالم الثالث، لأن الخريطة اختلفت فلم يعد هناك اتحاد سوفياتي كعالم ثان، ولأن بلاداً كالهند والصين واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها قد ارتقت مكانها بين دول العالم الأول، ولم يعد لدينا سوى عالمين. والاختلاف بين العالمين لا علاقة له بالمكان بقدر علاقته بالزمان، فالعالم المتقدم يعيش زمناً يختلف بالكلية في المفاهيم ومناهج التفكير والقوانين والسياسة والعادات والتقاليد وباقي نظم المجتمع، عن العالم المتخلف الذي لا يزال يعيش زمناً مضى.

والسر في تعاسة المثقف الحر من الأيديولوجيا، أنه الوحيد القادر على إدراك حقيقة ما يعانيه مجتمعه من تخلف، لأن بقية وسائل الإعلام والتعليم والتديين تجمع على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، ورجل الدين لا يرى في مجتمع المتقدمين أي تقدم، يمتدح العودة للتفكير بحسب زمن القرن السابع الميلادي. وما نراه على المتقدمين وما يصل إلينا من علمهم وابتكارهم وعلاجاتهم ووسائل رفاهتهم هو كله تقدم زائف أدى إلى تخلف المجتمع بدلاً من تقدمه، فتحلل المجتمع، فأهل الغرب المتقدم بكل علومهم وفنونهم ونجاحاتهم هم في الحضيض بين المجتمعات، أما نحن فأهل القمة، بل نجلس فوق القمة، وهي القمة التي يراها المثقف الحر رأس خازوق عظيم.

ولك هنا أن تعجب من بجاحة هذا المنهج العليل في التفكير وصوته العالي في الشأن القيمي والأخلاقي.


ومع انتشار أجهزة الإعلام الحديثة، وعدم الرغبة في تحصيل المعرفة من مصادرها السليمة لأنها لا لزوم لها، تراجعت عادة القراءة في بلادنا وتقزمت، فذبل العقل وعطبت وظيفة التفكير، وهذه الأدوات الإعلامية المتقدمة التي صنعها أهلها لمزيد من التثقيف والتعليم، نستخدمها في بلادنا لتكريس منهج التلقين الجاهز للمحفوظات لوقف استخدام العقل، فكان أن تزايد عدد مثقفي التلقي والمحفوظات لتصبح طبقة الغوغاء والدهماء هي الأكثر عدداً وحضوراً، وهم ليسوا في حاجة إلى معرفة، ومع تخلي العقل عن وظيفته تحولوا إلى بسطاء في الطاقة العقلية والاستيعابية للمعارف، حتى إنهم ينفرون حتى من التلقي التلفازي ويعزفون عن متابعة المشاهدة إذا كان المطروح عليهم في حاجة إلى التركيز والفهم والمتابعة الدقيقة، ومما ساعد على تلك الكبوة النكراء لمجتمعاتنا خصوصاً المصري الذي أعرفه، هو الانهيار الاقتصادي، مما أدى لانهيار مماثل في أسلوب التعليم، مع التكاثر الأرنبي، وتقدم علوم الطب التي أدت لتراجع نسب وفيات الأطفال، فلم تعد المدرسة تتسع لهم، اختفى المختبر والتجربة والعمل الذهني، لما يضيعه من وقت غير متوافر، واختفت معه كل المنافسات الرياضية بين فرق الطلاب، وكذلك الهوايات كالمسرح المدرسي الذي نشأنا على ضرورته في الأقل للاحتفال بالتفوق في نهاية العام بحفل غنائي، وغاب الغناء المحرم وغابت معه الموسيقى وكل الفنون بأخلاقياتها وقيمها وقدرتها على تهذيب الروح والسمو بالقيم، وتحول التعليم إلى محفوظات سريعة، فلا وقت للشرح، مما قضى مبرماً على ملكتي التفكير والابتكار، ليخرج هؤلاء من المدارس أسوأ خلقاً وأقل معرفة ممن علمتهم الحياة عبر الصواب والخطأ، من الأميين الذين نجد بينهم حكماء، لا نجدهم أبداً بين خريجي مدارسنا.

وهؤلاء الغوغاء هم صفوة جمهور مشايخ الإسلام اليوم.

2002*

* كاتب مصري «1947 - 2022»