كل كلام سيقال وسيكتب في الأيام القادمة حول "غزوة بروكسل" سيكون كلاما مكررا ومعادا وسبق ذكره عند كل عملية مشابهة شهدها الغرب في السنوات الأخيرة، بشكل أكثر تحديدا، كل كلام سنسمعه على شاشات الفضائيات وسنقرؤه في أخبار الصحف وفي تعليقات الكتاب، سنكون قد سمعنا وقرأنا شبيها له قبل خمسة أشهر، تحديدا في الثالث عشر من نوفمبر الماضي، في يوم باريس الدامي.

والربط بين الحدثين (أحداث باريس وبروكسل) بدأ في اللحظات الأولى لتفجير بروكسل الأول (تفجير المطار)، حيث ربطت التقديرات الأولية بين التفجيرات وبين اعتقال صلاح عبدالسلام الذي يعتقد أنه العقل المدبر لعمليات باريس الأخيرة والناجي الوحيد من المتهمين بالعملية، ويعتقد المحققون (ومعهم المحللون والمراقبون) أن عملية بروكسل قد تمت انتقاما لقيام السلطات البلجيكية باعتقاله قبل ثلاثة أيام فقط من تنفيذ العملية، وهذا الربط بالطبع هو ربط إعلامي أكثر مما هو جنائي، أي يخص الرأي العام أكثر مما يخص تفاصيل التحقيق، فعملية بهذا المستوى لا يمكن التحضير لها في يومين، وهي عملية تم تنفيذها بإتقان لا يناسب العمليات الانتقامية التي تكون عادة حمقاء ومستعجلة، وغالبا ما تفشل في تحقيق أهدافها، والعمليات الانتقامية تختار أهدافا سهلة، بينما العمليات التي تمت في بروكسل اختارت أهدافا صعبة، وجرت في مكانين مختلفين بتوقيت متزامن، وأحدهما هو المطار، وهذا لوحده يحتاج إلى تحضير ومراقبة واختيار الوقت المناسب لإدخال العبوات، كما وتسربت أخبار عن إحباط فصول أخرى مرتبطة بالعملية، مثل الأنباء غير المؤكدة عن ضبط سيارة مشبوهة قرب مبنى رئاسة الحكومة، وآخر قرب القصر الملكي، كل هذا يشير إلى أن العملية مدبرة ومحضر لها قبل وقت طويل.

تنظيم داعش سارع كالعادة لتبني العملية وتهديد أوروبا الكافرة بمزيد من الموت والدمار، انتقاما لتحالفها ضد "دولة الإسلام"، والأزهر أصدر بيانا (أو سيصدره بعد قليل) يقول فيه إن هذه العملية لا تمثل الإسلام، وإن الدين السمح براء من هؤلاء المجرمين، وسيناشد الغرب أن لا يأخذ جميع المسلمين بجريرة بعضهم، والنظام السوري سيقول (إن لم يكن قد قال فعلا في المسافة الفاصلة بين كتابة هذا المقال ونشره) سيقول: لقد حذرناكم، أنتم تدفعون ثمن دعمكم للإرهاب، لو أنكم استمعتم لكلام الأسد منذ مارس 2011 لما حصل لكم ذلك، بعض المعارضين السوريين سيقولون إن مخابرات الأسد متورطة في العملية لتشويه صورتهم في مجتمعاتهم الأوروبية الجديدة، والبعض الآخر سيقول إن العملية بالأصل مدبرة من روسيا وإيران لإعادة إنتاج حليفها الأسد، وإقناع الغرب بأنه شريك في مكافحة الإرهاب.

أصوات كثيرة ستخرج من أماكن مختلفة في العالم العربي والإسلامي تتبرأ من العملية وكأنها متهمة بها سلفا، فيما ستواجهها أصوات أخرى في الغرب تعمم صفة الإرهاب على كل المسلمين في العالم، وستعرض بعض المهاجرين العرب لإهانات واعتداءات، وقد تتعرض المساجد في أوروبا لهجمات انتقامية، وبالتأكيد لن يكون الانتقام من جنس العمل، بل سيكون محاولات لافتعال حرائق وإلقاء أشياء مهينة على أماكن تجمع المسلمين ودور عبادتهم، مثل دم الخنزير ورؤوس الحيوانات المقطوعة.

صحيفة شارل إيبدو ستنشر بعض الرسوم الكاريكاتورية التي تسخر من المسلمين وتحرض عليهم، وستخرج حملات إعلامية ضدها وتتهمها بالعنصرية، الخصوم السياسيون للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل سيجدون في أحداث بروكسل فرصة لمهاجمتها ومهاجمة سياساتها المحابية للاجئين، وهي ستدافع عن نفسها وعن اللاجئين، وسيظهر بالصدفة فيديو يتناقله الناس لطفلة سورية لاجئة في ألمانيا ترقص الباليه بطريقة بارعة، أو طفل سوري يحرز أهدافا في كرة السلة أكثر من كريم عبدالجبار.

كل ذلك سيجري بالطبع، وسيبرد مع الوقت، لكن النتيجة النهائية لهذه العملية كما كل ما شابهها، أن حالة التأهب في أوروبا على أقصاها، وسنكون نحن العرب المقيمون فيها في حالة حذر لمدة طويلة، وستكون حركتنا محدودة، وستبقى عيوننا تتلفت خوفا من متعصب ما، يضربنا بعصا أو يلقي علينا سائلا حامضيا، وبسبب هذا النوع من "الجهاد" الذي اختارته داعش وأمثالها، ستضيق بنا هذه البلاد أكثر فأكثر، كما ضاقت بنا بلداننا الأصلية، وكأن أنظمتنا الديكتاتورية ومعها تنظيماتها المتشددة، هي لعنة ستلاحقنا ولو وصلنا إلى نهاية الأرض، وربما لو صعدنا للسماء.