يُعد الاهتمام بالتعليم وجودته من أهم وسائل التنمية البشرية، وبه يمكننا بناء القاعدة الأساسية لمواردنا البشرية التي تستهدفها رؤيتنا الإستراتيجية وبما يخدم تطلعاتنا التنموية وأهدافنا المستقبلية، وإذ تتحمل وزارة التعليم في مسؤولياتها وإدارتها عبء التعليم العام والتعليم العالي، فإن ذلك يثقل كاهل مسؤوليها ويحول دون إمكانية تحقيق الإنجازات المأمولة، أو حتى جزء من المستهدفات المطلوبة، للارتقاء بجودة التعليم ونوعية مخرجاته، لما يتطلبه ذلك من استيعاب لكامل المنظومة التعليمية وما تحتاجه من تطوير للنظام والسياسات التي تخدم النهوض بالتعليم ومستوى أدائه على كافة المستويات التعليمية والإدارية والفنية والمؤسسية، ومتابعة ما يتصل بذلك من إشكالات مختلفة، لتقويم ما يمكن منه في إطار خطط مدروسة ومستهدفات واضحة وإجراءات سليمة يمكنها قياس مستوى الأداء.

ومما لا شك فيه أن هناك اختلافا كبيرا بين نظام التعليم العام بجميع تفاصيله، وبما يتعلق به من سياسات وقوانين ونظام تعليمي وإداري ومؤسسي وموارد بشرية، وغير ذلك من مكونات الهيكل المؤسسي له، وبين التعليم العالي بجميع ما يتضمنه نظام الجامعات من لوائح وتفصيلات لبرامج أكاديمية وإدارية وموارد بشرية مختلفة تماما، ولذا فإن تحمل مسؤولية إدارة هيكلين مؤسسين تعليميين كبيرين وبمضمون مختلف تماما وتحت مظلة واحدة من الصعوبة بمكان، وبما يُعقد إمكانية الإلمام بواقعهما الحقيقي وطبيعة إشكالاتهما، وبالتالي يحول دون التمكن من وضع السياسات والإجراءات الملائمة للنهوض بهما لتحسين أدائهما والارتقاء بمخرجاتهما.

فبينما تلاحقنا وسائل الإعلام المختلفة بالأنباء اليومية عن إشكالات التعليم العام ومتطلباته التي لا تعد ولا تحصى، لكونه يستأثر على جُل جهود الوزارة في محاولة للحد من تحدياته الكثيرة، ومعالجتها في ظل الظروف والإمكانات القائمة بتنظيمها الحالي، فإن واقع الجامعات الداخلي وما يجري في أروقتها وإداراتها وبين كلياتها أمر يكاد يكون سريا ومجهولا في طبيعته ومجرياته ومستوى جودة أدائه وشفافيته، وذلك التغييب ليس لمن هم خارج نطاق الجامعات من عامة المجتمع، وإنما هو غامض حتى لمن يتحملون مسؤولية الإشراف على الجامعات ومتابعتها ولو شكليا، سواء من وزارة التعليم أو الجهات الأخرى المساندة لها كهيئة تقويم التعليم.

وإن ما يجري في الجامعات من مخالفات لتوجهات الدولة، سواء في التوظيف المعني باستقطاب المواطنين المؤهلين من المتميزين للعمل الأكاديمي بمختلف درجاته، وعدم الشفافية أو المصداقية للآلية التي يجري فيها نظام التعاقد والتوظيف بصفة العموم، أو الآلية التي يجري فيها تعيين القيادات الإدارية للأقسام والكليات ووكلاء الجامعات، أو مدى شفافية ومصداقية المعاملات المالية والإدارية المختلفة وما يرتبط بذلك من متابعة من الجهة القانونية في الجامعة، وما مرجعية ومصداقية كثير من البرامج والمشاريع والاستثمارات المعلنة ومستوى النزاهة في إرسائها وتنفيذها، أو مدى ما تخضع له الترقيات العلمية من أمانة علمية ومعايير شفافة ونزيهة، أو مدى مصداقية الأبحاث المطروحة كمحتوى وكنشر علمي، أو مدى سلامة الأداء الأكاديمي في التدريس والتقييم، وغير ذلك من الأمور التي لا تعد ولا تحصى، والتي يشكل فيها سور الجامعة وإدارتها العليا، الحصن المنيع الذي يحول دون أي تدخل خارجي أو سلطة تراقب وتتابع ما يحدث داخل تلك الدويلات الأكاديمية.

منذ شهور تم نشر مقترح نظام الجامعات الجديد الذي ناقشه مجلس الشورى أكثر من مرة لتعديل بعض مضمونه، ونوقشت حوله كذلك رؤى مختلفة في الصحف المحلية، وما زال حتى الآن -بفضل الله- لم يرَ النور، فعلى الرغم مما احتواه النظام المقترح من تحديثات مهمة تطويرية في إدارة النظام الجامعي المؤسسي والأكاديمي والإداري، إلا أنه تضمن كذلك منح مزيد من الاستقلالية للجامعات، وفي إطار خطوط عريضة وسمات عامة توجه المسار الجديد للجامعات، وذلك في ظل ذات الهيكل المؤسسي المشرف على الجامعات شكليا تحت مظلة وزارة التعليم، وفي ظل تلك العزلة الداخلية التي تغلف الجامعات في رصد أدائها الحقيقي والفعلي كمؤسسات وكبرامج أكاديمية.

ومما يجدر التنويه إليه أنه على الرغم من نيل الاعتماد المؤسسي لبعضها أو الأكاديمي أو التصنيفات المتقدمة التي تنشر، فإنه في الحقيقة في ظل ذلك الواقع الذي تعيشه الجامعات لا يمكن القبول بمصداقية تلك الاعتمادات أو حتى التصنيفات، طالما أن هناك اختلالا بالمعايير المنفذة والآلية التي يجري بها التقييم، والذي لا يعكس الواقع الفعلي للجامعات.

ومن الملاحظ أن إشكالات التعليم العام قد استحوذت على اهتمام وزارة التعليم، وبما يقتضي متابعتها ومعالجتها للخروج بها من مأزق عميق الجذور في الأداء والمستوى، والذي كان نتيجة لتراكمات من الاختلالات المختلفة لسنوات، والتساؤل المطروح وبعد تجربة سنوات من محاولة إصلاح النظام التعليمي، هل يمكن لوزارة التعليم أن تتحمل فعليا مسؤولية إدارة التعليم العالي، بالإضافة إلى التعليم العام الذي يمثل عمق مسؤولياتها؟! وهل نجحت الوزارة في الحد من كثير من الإشكالات التي يعانيها النظام التعليمي؟! أم أننا ما زلنا في بداية الطريق؟! وهل الجمع بين التعليم العام والتعليم العالي تحت مظلة واحدة «وزارة التعليم» يسهم في ضعف الإنجاز المأمول لتراكم المسؤوليات واختلافها؟ أوليس من الأفضل الفصل التام في الهيكل المؤسسي والإداري بين التعليم العام والجامعات، بما يتيح تصحيح واقع جامعاتنا اليوم ويسهم في التركيز على معالجة تحديات التعليم العام؟.

إن إعادة هيكلة الإدارة العليا للتعليم العالي بتشكيل مجلس أعلى للجامعات أو هيئة معنية بالتعليم العالي تقوم على لوائح جديدة تخدم تصحيح الواقع الحالي للجامعات، ستسهم ليس في الارتقاء بواقع جامعاتنا ومخرجاتها فحسب، وإنما ستخدم كذلك مستوى مخرجات البحث العلمي وجودته ونوعيته ومدى مواءمته متطلباتنا التنموية الوطنية وتطلعاتنا المستقبلية، من خلال تخصيص هيئة معنية بمتابعة تنفيذ جميع المعايير والمتطلبات المتعلقة بالبحث العلمي وما يتصل به من ترقيات وقوانين وشفافية، لكون الجامعات تمثل المركز الأهم والحاضن الأساس للبحوث العلمية بمختلف مستوياتها، وعليه فإن هناك حاجة ماسة للإسراع في الفصل بين التعليم العام، والتعليم العالي في إدارته العليا، وبما لا يمنع من التنسيق في التواصل بينهما في السياسات والإجراءات التي تخدم الطرفين.