حظيت الزيارة التي قام بها وفد سعودي كبير قوامه 100 شخصية بينها 9 وزراء إلى العراق باهتمام إعلامي ورسمي وشعبي ضخم، لا سيما أنها أتت في سياق أعمال الدورة الثانية لمجلس التنسيق السعودي العراقي، وركزت على تطوير العلاقات والتعاون الاقتصادي، وتفعيل دور السعودية في مرحلة الاستثمار وإعادة العراق للعب دوره القديم، والتعاون في مختلف المجالات، كما تزامنت مع فترة بالغة الأهمية في تاريخ العراق بعد إعلان هزيمة تنظيم داعش الإرهابي، وهو ما دعا المملكة إلى المسارعة في أعمال إعادة إعمار ما دمرته الحرب. وإن كانت الزيارة وما تمخض عنها من نتائج هائلة بمقياس الاتفاقيات التي تم توقيعها، والدعم الذي قدمته الرياض لبغداد قد لفت انتباه المتابعين والمحللين على المستويين الاقتصادي والسياسي، فإن ذلك لم يكن مفاجئا لمن يدركون حقيقة العلاقة المتأصلة بين الشعبين الشقيقين وما يجمع بينهما من سمات وصلات قلَّ أن توجد بين دولتين أخريين، فالعراق ظل على مدار تاريخه هو المدخل الشرقي للعرب، الذي يحتضن التاريخ العربي الضارب بجذوره في القدم، وهو أرض الدولة العباسية والحضارة الإنسانية والإسلامية، التي ازدهرت ونمت في وقت كانت فيه ما يعرف في الوقت الحالي بدول العالم المتحضر تغط في سبات عميق، وتعاني من التخلف والتراجع. لذلك كله ظلت نظرة المملكة للعراق ثابتة، وتؤكد أنه أرض العروبة، وامتدادها التاريخي، وأن أي وضع له خلاف ذلك هو وضع شاذ لا ينسجم مع معطيات التاريخ والجغرافيا، ويناقض المنطق وحقائق الأشياء، وبالتالي فإن مآله إلى الزوال. كما اشتهر الإنسان العراقي دوما بفخره بنسبه العربي، وتجسيده لصفات العروبة الأصيلة بما فيها النخوة والشهامة والكرم، وظل متمسكا بانتمائه العربي، واعتزازه بقوميته، وعدم تسامحه مع من يسيء إلى قضايا ومصالح أمته. لذلك بقيت القواسم المشتركة التي تجمع بين الرياض وبغداد شامخة باقية، مثل الجوار الرابط، والانتماء العربي، والدين الواحد، والمصالح المشتركة، والعدو المعروف.

في أرض الرافدين، وعلى جنبات شارع المتنبي، وصدى أشعاره الخالدة التقى الوفد السعودي بكل مكونات الشعب العراقي، حكومة وشعبا، ففاحت ذكريات الماضي وعبق التاريخ، وسالت دموع الشوق وطغت مشاعر الإخاء الصادق على كل ما سواها. كانت المشاعر جياشة جارفة، والحب يغلب على كل ما سواه، لذلك كانت ردود الفعل الشعبية منسجمة تماما مع معطيات الواقع. في تلك الأجواء المفعمة بالمشاعر دارت أعمال الدورة الثانية لمجلس التنسيق، فكانت النتائج مذهلة، ففي الوقت الذي تم فيه الإعلان عن هدية الملك سلمان لشعب العراق ببناء مدينة رياضية، ودعم العراق بمليار دولار، وإنشاء أربع قنصليات في ثلاث مدن عراقية، تم كذلك التوقيع على ثلاث عشرة اتفاقية ومذكرة تفاهم بين الجانبين، وإتاحة الفرصة للسعوديين للاستثمار في العراق بما يبلغ عدده 189 فرصة استثمارية.

ولمن لا يقرؤون التاريخ ولا يجيدون النظر إلى حقيقة الأشياء، ولا يعترفون بالواقع ويحاولون إنكار ضوء الشمس من رمد، فإن هذه سياسة المملكة التي عرفت بها على الدوام، وأفعالها التي تتحدث عن نفسها ولا تحتاج لمن يشير إليها، وهي سياسة واضحة قائمة على ما بات يعرف باقتصاد الإنسانية والحب، المبني على الرغبة في مد يد العون والدعم، مع اقتصاد الأرقام القائم على المصالح المتبادلة والحرص على تطوير الواقع وتعزيز قيم الاعتماد على الذات، وتقديم كافة أشكال الدعم، سياسيا واقتصاديا ولوجستيا، ونقل الخبرات، وهي سياسة تترجم منتهى العقلانية وتعكس الإصرار على استدامة التنمية. ليس هذا فحسب فعلاقات الرياض وبغداد لم تركز فقط على الجانب الاقتصادي، بل إن الجانب الأمني كان حاضرا على الدوام، لأن أمن أي منهما واستقراره مرتبطان أشد الارتباط بالآخر، لا سيما في هذا الوقت الذي مني فيه الدواعش بهزيمة مفصلية، لذلك كان التنسيق ضرورة ملحة لضمان عدم عودة التطرف والإرهاب مرة أخرى، تحت أي شكل وبأي مسمى.

على الجانب الآخر أبدت حكومة الملالي في طهران - كعادتها - انزعاجا شديدا من الزيارة وقلقا كبيرا من نتائجها، لدرجة أن مرشدها على خامنئي تخطى كافة الأعراف الدبلوماسية، وتخلى عن كل وقار وهو يطلق تصريحه الذي أثار سخرية الآخرين وتندرهم، عندما قال إن «التقارب السعودي العراقي لا يعكس حقيقة موقف الرياض»، وهو لا يرمي من وراء هذا التصريح الملغوم إلا لإبقاء العراق بعيدا عن حضنه العربي، وأن يظل سوقا لمنتجات طهران الراكدة وبضائعها الكاسدة، لأنه يعلم علم اليقين أن إعادة افتتاح معبر عرعر الحدودي بين البلدين ستجعل بغداد في غنى عن أي تعاون اقتصادي مع طهران. كما يريد في ذات الوقت أن تبقى أرض الرافدين ومهد الحضارة الإسلامية العريقة أسيرة سياساته المدمرة، وملعبا تعيث فيه ميليشياته الطائفية فسادا، لا لشيء إلا تحقيقا لأوهامه المتمثلة في خرافات الإمبراطورية الفارسية التي غربت عنها الشمس، ولن تجد سبيلا للعودة على أرض الواقع.

هذه هي علة النظام الإيراني، فهو لا يجيد قراءة الواقع، ولا يريد الاعتراف بالحقيقة المريرة التي تعيشها بلاده، ولا التماهي مع معطيات الحقائق التي تشير بوضوح إلى أننا نحيا عصر الإنجاز والإنتاج، وأنه لا مكان في عالم اليوم لمن لا يجيد سوى تقديم أدوات الموت والدمار من بنادق ورصاص وألغام وميليشيات تقتل الأبرياء وتقتلع الأشجار، ويسارع في إنشاء السجون والمعتقلات، ويغل يده في ذات الوقت عن تقديم وسائل الحياة ويمسكها عن دعم افتتاح المدارس والجامعات، لذلك لم يعرف عنه المسارعة والمشاركة في مؤتمرات دعم العراق، وآخرها ذلك الذي عقد في الكويت وتجاوبت فيه كافة الدول العربية، فيما اكتفى هو بموقف المتفرج. وهذا هو الفرق بينه وبين المخلصين الذين يقفون مع إخوتهم في أوقات الشدائد وأزمان المحنة.