كنت أتابع مثل كثير من المتابعين على وجه المعمورة رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن، كيف ستتعامل مع الحادثة الإرهابية التي هزت كل مشاعر المسلمين في تلك المجزرة الإرهابية للأسترالي الذي قتل حوالي 48 مسلماً في مسجدين في مدينة كرايست تشيرش، فوجدت كثيرا من الكتابات والمحللين الذين يثنون ويصفقون بأيديهم وطرحهم على نجاح رئيسة الوزارة في إدارة الأزمة لبلادها، حيث تعد هذه الأزمة مفصلية لسمعة الدولة، خاصة وأنها قائمة على الجانب (العنصري الإرهابي المقيت)، الذي قد تكون له تبعات وأثر يتخطى الحدود والتوقع، ويكون ذريعة لعمليات إرهابية عابرة للقارات، والتاريخ كفيل بشواهد على مثل هذا القول.

هذه الأزمة وطريقة التعامل معها جعلت المراقبين ينظرون إليها بتفسيرات مختلفة تخضع في مجمل تحليلاتهم للجوانب السياسية والاقتصادية والإعلامية والقيادية والحزبية، وبأساليب مختلفة، ولعلنا في هذا المقام نناقش هذه الأزمة من خلال تساؤلات حول كيف تم كسب الرأي العام في هذه الأزمة؟، فالقادة المحنكون يدركون أن هناك مخاطر في كل إجراء تقريباً من تحركاتهم وفي كل قرار يؤخذ، فهم يهتمون بالنتائج التي من أجلها يرسمون الخطط والإستراتيجيات، فعندما يتعلق الأمر بقيادة الجمهور وحشد التأييد لقضية معينة، وفي لحظة معينة، وأزمة كتلك الأزمة التي قد تنسف الجميع وتقلب الدولة إلى اضطرابات وعدم استقرار أمني، فإنه ينبغي أن نؤثر عليه بواسطة محفزات وأدوات فعالة، وأكثرها قدرة على الفعل والتأثير، ومن ضمن تلك المحفزات السريعة هو مفهوم (النموذج والقدوة)، فقد بدأت رئيسة وزراء نيوزيلندا بتهيئة الجمهور عن طريق بعض الظروف الخاصة لهذه القضية، وهو اعترافها السريع بمسمى الإرهاب لهذه العملية، وبالتالي كسبت رضى المسلمين، فلم تخلق نوعا من التصادم الفكري والعقدي، وأن هذه العملية لن تسيس من حيث المفهوم والمضمون، وأن الإرهاب فقط مرتبط بالدين الإسلامي كما تروج له بعض وسائل الإعلام الغربي، فكانت هذه الخطوة بمثابة حجر الأساس لاحتواء المشاعر الغاضبة، وهو الاعتراف بالمشكلة ونقاط التقاطع التي يمكن الانتقال منها إلى الجانب الآخر، فعندما نريد أن ندخل الأفكار والتغيير ببطء إلى روح الجماهير وعقلياتهم وكسبهم فممكن أن نلجأ بشكل أساسي إلى أحد الأساليب الثلاثة، والتي تم استخدامها في هذه الأزمة وهي، أولاً: أسلوب التأكيد في كل محاجة عقلانية يشكل الوسيلة الموثوقة لإدخال فكرة ما في عقلية الجماهير، وهو الاعتراف بالعملية كجريمة إرهابية قائمة على العنصرية ضد المسلمين الذين هم جزء من النسيج الاجتماعي ومكون أساسي، وكلما كان التأكيد قاطعا وخاليا من كل برهان فرض نفسه بشكل أكبر وتأثير قوي.

ثانيا: أسلوب التكرار، وهو الذي وجدناه في جميع وسائل الإعلام وبصور مختلفة، كان مضمون رسالتها التسامح والتعاطف، وتم تكراره باستمرار وبنفس الكلمات والصياغات ما أمكن ذلك، وتصوير أن المجتمع مقتنع بوجود المسلمين وشعائره كالحجاب والأذان ولا يعارضه، وأن الإسلام أحد المكونات الأساسية للمجتمع حتى أنك تجد أن رئيسة الوزراء والمذيعين والمجتمع بأكمله لبس الحجاب ورفع صوت الأذان في جميع أرجاء البلاد، وتمت زيارة المساجد للتعبير عن التضامن الداخلي، وأنهم في صف واحد، ولم يكتفوا بالتنديد أو الاستنكار، وإنما الأفعال التي كرست وأدخلت مفهوم التضامن الواحد، وهم بذلك استخدموا الإستراتيجية التي كان يقول عنها نابليون إنه لا يوجد إلا شكل واحد جاد من أشكال البلاغة هو: التكرار. فالشيء المؤكد يتوصل عن طريق التكرار إلى الرسوخ في النفوس إلى درجة أنه يقبل كحقيقة يؤمن بها. فعندما نكرر الشيء مرارا وتكرارا ينتهي به الأمر إلى الانغراس في تلك الزوايا العميقة للاوعي، حيث تصنع دوافع لأعمالنا.

ثالثا: العدوى لا تتطلب الحضور المتزامن للأفراد في نقطة واحدة، بل يمكن أن تنتشر على البعد بتأثير من بعض الأحداث التي توجه النفوس في نفس الاتجاه وتسيطر على الجماهير، ولعل خروج الناس في الشوارع بجميع أطيافهم حتى العصابات خرجت وتضامنت بشكل كبير مع الضحايا، أكبر شاهد على مثل هذه العدوى التي تجعل الأشخاص ينزلون إلى الشوارع بتعاطف كامل، وهذه ميزاتها الخاصة أيضا مثل الانفجار الثوري الذي حصل في فرنسا عام (1848). فقد انطلق من باريس وامتد فجأة ليشمل جزءا كبيرا من أوروبا، فالجماهير تجد أن الأفكار والعواطف والانفعالات والعقائد الإيمانية تمتلك سلطة عدوى بنفس قوة وكثافة السلطة، فهذه الظاهرة كما يقول أحد الكتاب الفرنسيين، شبهها بصهيل الحصان في الإسطبل سرعان ما يعقبه صهيل الأحصنة الأخرى في نفس الإسطبل، فختاما استطاعت نيوزيلندا قيادة الجماهير بواسطة هذه الأساليب الثلاثة، وهناك أيضا أساليب أخرى استخدمتها لكن تظل في حقل آخر غير الحقل الذي قمنا بالنظر من خلاله، فهناك أساليب ابتكارية تلامس العواطف والعقول في آن معا. وفي كل فترة نلاحظ أن عددا قليلا من الشخصيات هي التي تطبعها بطابعها وتؤثر عليها، ثم تقلدها الجماهير.