تردد في الأعوام الثلاثة الأخيرة كثيرا، ذكر معاهدة سيفر واتفاقية لوزان، وأصبحت تلقي بظلالها على تحليلات المحللين السياسيين، وعلى تصريحات المسؤولين الأتراك، حتى أن الرئيس التركي إردوغان أعلن أن عام 2023 هو عام التحول التنموي والسياسي لتركيا، فماذا يعني ذلك؟

معاهدة سيفر وقعتها الدولة العثمانية عام 1920 مع دول المحور بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وكانت بشروط قاسية ومجحفة بحق الدولة العثمانية التي وقعها أربعة أشخاص نيابة عن السلطان محمد الخامس، وتضمنت التخلي عن جميع الأراضي العثمانية التي يقطنها الناطقون بغير التركية، إضافة إلى استيلاء الحلفاء على أراض تركية، ولكن رغم التوقيع رفضها الأتراك، ووقعت بعدها اتفاقية لوزان الثانية في 1923 بين القوى المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى والعثمانيين الذين مثلهم عصمت إينونو الرئيس الثاني لجمهورية تركيا، وقسمت على أساسها الدولة العثمانية وتأسست دولة تركيا الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك، الذي أعلن إنهاء الخلافة الإسلامية وأعلن علمانية الدولة، وأصبح أول رئيس للجمهورية التركية التي يعد إردوغان الرئيس الثاني عشر لها، ومدة الاتفاقية 100 عام تنتهي في عام 2023، ويرى الأتراك أن توقيع الاتفاقية يعد وثيقة تأسيس الجمهورية التركية، حسب تعبير إردوغان، فإن انتهاءها يعد بداية للتحول السياسي والتنموي لتركيا بالتخلص من الاشتراطات التي تضمنتها الاتفاقية، وصرح بذلك في أثناء لقاءاته الدورية مع المخاتير الأتراك لإيصال رسائل سياسية إلى الداخل والخارج.

وما قاله الرئيس التركي نراه يتكرر في تصريحات السياسيين والمسؤولين وحتى الشباب المتحمسين للإردوغانية، وتعج رسائل التواصل واليوتيوب بمقاطع كثيرة في هذا الجانب.

ما حدث فعليا في السنتين الأخيرتين أن إردوغان انكسرت طموحاته على أرض الواقع، فعلى الصعيد الخارجي بدأت أوروبا تراقب تصريحاته وما سيفعله بعد 2023 فيما يتعلق بالجزر وبعض المناطق في أوروبا التي كانت جزءا من تركيا الأوروبية، وحديثه عن الجبل الأسود وحفر قناة جديدة بين البحرين الأسود ومرمرة تمهيدا للبدء في تحصيل الرسوم من السفن المارة بها، وبدأت الخلافات بينهم تظهر إلى السطح، وعربيا أجهضت الثورات التي كان يدعمها وانكشف دوره في دعم الميليشيات بليبيا من خلال شحنات الأسلحة الثقيلة، كما أدرج تنظيم الإخوان الذي يستخدمه، ضمن قائمة الإرهاب في كثير من الدول، وإيران التي تقاسم معها بعض مناطق النفوذ ضعفت بالحظر الأميركي، وبدأ التراجع التركي الإيراني في كثير من الدول الإفريقية، والنموذج الإيراني الذي نجحت فيه مرحليا باحتلال القرار في أربع عواصم عربية هي دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء، وأراد استنساخه لم ينجح في تطبيقه باستثناء الدوحة، رغم محاولاته المستميتة وآخرها عندما زار السودان في ديسمبر 2017 ووقع 12 اتفاقا مع البشير المخلوع حاليا، ومن ضمنها وضع جزيرة سواكن السودانية تحت الإدارة التركية، وصرح وقتها بصفاقة: الأتراك الذين يريدون الذهاب للعمرة سيأتون إلى سواكن ومنها إلى العمرة، وعلى الصعيد الداخلي تدهور الاقتصاد التركي نتيجة إصرار إردوغان على إبقاء معدلات الفائدة منخفضة من 2009 - 2018، الأمر الذي أدى إلى تضخم كبير في فقاعة الائتمان وانفجرت بعد رفعها بشكل سريع من 8 % - 24 %، ودخلت البلاد في ركود اقتصادي، وقطر الممولة لمخططاته أصبحت تحت المقاطعة وتمويلاتها للخارج أصبحت مراقبة، بعد توقيع الدوحة لاتفاقية مكافحة الإرهاب مع أميركا التي كانت ترفضها سابقا، وازداد تململ الشعب من دكتاتورية إردوغان التي ظهرت آثارها في الانتخابات البلدية الأخيرة، ولذلك لم يبق له إلا المزايدة بالشعارات التي بلغت أوجها في الأشهر الماضية، واستخدم فيها مرة ورقة خاشقجي، ومرة ورقة وطنية الليرة، ومرة حماية الإسلام حين أعلن تصريحه المضحك بأن إرهابي نيوزيلندا يستهدفه شخصيا، وأخيرا بالطعن في نتائج انتخابات إسطنبول التي هزم فيها رغم أنها تعد قاعدته الانتخابية التقليدية.

ودفعته تصريحاته النارية إلى التراجع بشكل فوري ومذل تجاه بعض الأحداث والمواقف الدولية، ومن ذلك موقفه من أميركا وروسيا، فتصريحاته الرافضة بشكل قاطع لتسليم القس الأميركي وربطها بالسيادة الوطنية انتهت بتسليمه دون قيد أو شرط، والمواقف كثيرة ويعرفها الجميع.

لكن الوقفة الأهم هي مع كوميديا العلاقات الروسية التركية، فبعد أن أدان الرئيس الروسي بوتين إسقاط الطائرة من قبل الأتراك في أكتوبر 2015 ووصفها بطعنة في الظهر من شركاء الإرهابيين، وطالب تركيا باعتذار، ولكن إردوغان رفض الاعتذار في أكثر من خطاب له وحذر روسيا من اللعب بالنار، ثم في يونيو 2016 أرسل رسالة لبوتين يعتذر فيها عن إسقاط الطائرة ويقدم تعازيه لأسرة الطيار الروسي، وقال بالنص: اعذروني من كل قلبي نشاطرهم الآلام ومستعدون لأي مبادرة، وهذا الاستعداد ترجمته وزارة الدفاع الروسية بطلب دفع 30 مليون دولار قيمة طائرة جديدة وليست الحالية، ومليوني روبل لعائلة الطيار.

وعندما سئل مسؤول تركي مرة من أحد الصحفيين عن هذا التنازل لروسيا، رغم أن الأتراك أعلنوا أن الطائرة اخترقت المجال الجوي التركي وجرى تحذيرها عشر مرات خلال خمس دقائق، أجاب ضمنا بوجود اتفاقات من هذا النوع مع الروس أيام الدولة العثمانية ولم يفصّل.

لذلك نقبت في الاتفاقيات التي أبرمت بين روسيا والعثمانيين على مدى تاريخ الخلافة وجدت اتفاقيتين تعكسان قوة وإجحاف الروس وتراجع العثمانيين رغم سلطانهم في ذلك الوقت.

الاتفاقية الأولى جرت في عام 1774 عندما هزم الفيلدمارشال الروسي رومانزوف القائد العثماني أفندي عبدالرازق، ووقع الصدر الأعظم على معاهدة من 28 بندا مع الروس قابلا بشروطهم، من أهمها: استقلال تتار القرم وبساريا وقوبان، وأن يعطي لإمبراطور روسيا لقب باديشاه في المحررات الرسمية، ويكون لروسيا حرية الملاحة في البحر الأسود والمتوسط، وتبني روسيا كنيسة في الآستانة ويكون لها حق حماية جميع المسيحيين التابعين للمذهب الأرثوذكسي من رعايا الدولة العثمانية، وتدفع لروسيا مبلغ خمس عشرة ألف كيسة بصفة غرامة حربية على مدى 3 سنوات، كما تقدم لروسيا المساعدات المقتضية للجلاء عما احتلته من جزائر الروم وسحب دونماتها منها.

الاتفاقية الثانية تمت في عام 1295هـ/‏‏ 1878م عندما حاصر الجيش الروسي الآستانة، واحتلوا بعض ضواحيها، فوقعت معاهدة بين الباب العالي والغراندوق الروسي نيقولا، وحدد يوم توقيعها بيوم ميلاد القيصر الروسي. تتكون من 29 مادة في سان استفانوس على بحر مرمرة، وبموجب الاتفاقية محت روسيا تركيا الأوروبية بأجمعها تقريبا من الخريطة السياسية، ولم يبق للدولة بها إلا أربع قطع صغيرة لا اتصال بين ثلاث منها إلا بطريق البحر، أما في آسيا فأخذت قلاع قارص وباطوم وبايزيد إلى حدود أرضروم، واعترف الباب العالي باستقلال الصرب والجبل الأسود ورومانيا استقلالا كاملا، هذا عدا المبالغ الحربية التي تعوض مصروفات روسيا في الحرب وتدفعها الدولة العثمانية ومنها 900 مليون روبل مقابل مصروف المعدات الحربية، 400 مليون روبل مقابل الأضرار الحاصلة في روسيا، 100 مليون روبل مقابل الضرر الحاصل من هجوم القوقاز، 10 ملايين روبل تعويض للمقيمين في الدولة العثمانية الموالين لروسيا، وبذلك يصل المجموع إلى ما يعادل 245 مليون ليرة عثمانية وريال مجيدي أبيض ونصف.