تمثل مرحلة الطفولة أهم مرحلة في حياة الإنسان، ويمثل الطفل أهم فئات المجتمع، ذلك أن الإنسان في هذه المرحلة تتكون شخصيته وتتشكل ملامحه، ويكتسب القيم والاتجاهات ويكتسب اللغة، ومن خلال اللغة التي تعد الوعاء الحامل للفكر يبدأ وعي الطفل بذاته وبالعالم من حوله.

ومن المتفق عليه علميا وتربويا، أن ما يكتب أو يوجه للطفل من خلال التلفاز، لا يكون للتسلية والاستمتاع الآني فحسب، بل لتقديم خبرات وقيم ومواقف سلوكية تسهم في تهذيب شخصية الطفل، وبلورة سماته الذاتية والاجتماعية، لأن كل شخص يكتب أو ينتج أو يخرج أدبا أو برنامجا خاصا بالطفل فهو مربّ، شاء أم لم يشأ، فهذه البرامج الموجهة للأطفال تلعب دورا في تربيتهم وتزيد من فرص تعلمهم، وتسهم في عملية اكتسابهم اللغوي إذا استخدمت بطريقة صحيحة.

لذلك، تعد صناعة أفلام الأطفال عملية معقدة وشائكة جدا، لارتباطها بعوامل أخرى إلى جانب العامل الترفيهي، فهي تتفاعل مع العوامل النفسية والاجتماعية واللغوية والثقافية للطفل، وهذا ما جعل كثيرا من الدول المتقدمة تصنّف سينما الأطفال بمثابة مدرسة ثانية للطفل، بل مساعدة للمدرسة ومكملة لها في أداء رسالتها التربوية والتعليمية، لأن الطفل يقضي ساعات طويلة أمام التلفاز متأثرا بما تعرضه من برامج، ولعل الأثر الأكبر والأهم يقع على لغته، خصوصا إذا عرفنا أن الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة والمتأخرة يكون في حالة اكتساب لغوي، واللغة العربية الفصحى تعدّ من أهم المرتكزات التي يحرص المربون على إكسابها للطفل بالشكل الصحيح، بوصفها دعامة من دعامات الحضارة العربية والإسلامية، وركنا من أركانها.

ومن يشاهد برامج الطفل في العالم العربي اليوم، فإن أول ما يلاحظه غياب الإستراتيجية اللغوية التي تستهدف وضع الخطط طويلة الأمد للنهوض باللغة العربية الفصيحة عند الطفل، فضلا عن توغل اللهجات العامية في برامج الطفل على نطاق واسع، وعبر قنوات فضائية ذات انتشار واسع، مما يعني تأثيرها على أكبر قدر من الأطفال في مختلف دول العالم العربي.

فقد أصبحت اللهجات المحلية كابوسا في الفضائيات، لأنها تحوّلت من روافد إثراء للغة العربية الفصيحة إلى لغات بديلة لها، مؤكدة القول إن ثقافة الطفل العربي في محنة حقيقية، ولا أحد يشك في أن ثقافة أطفالنا أمام تحديات ثقافية كبيرة، بسبب القنوات الفضائية التي فضّلت الربح المالي على حساب تقديم المادة والمحتوى التربوي والعلمي والأدبي الهادف.

في كثير من دول العالم التي تعطي أهمية قصوى لأدب وسينما الأطفال، كان من أهداف أدب الطفل تنمية الجانب المعرفي عند الأطفال، وذلك بإمدادهم بثروة لغوية هائلة، ولتحقيق هذا الهدف نهلت برامج الأطفال لديهم من معين الأدب العالمي. فكثير من الروايات العالمية لكُتّاب كبار مثل تشارلز ديكنز، ودانيل ديفو، وجين أوستن، حُوّلت إلى مسلسلات وأفلام موجهة للطفل، مع مراعاتهم خصوصية أدب الطفل، وأن الطفل في مرحلة اكتساب لغوي ومعرفي، لذلك أُخذ في الحسبان مستوى الطفل اللغوي والعقلي، فكانت كثير من هذه الأعمال تتميز شكلا ومضمونا بالجمال وسعة الخيال وتنوع الألوان، مع تكريسها كثيرا من الآداب والقيم ومشاعر التعاطف مع الفقراء والمظلومين، وتحفيزها ملكة التفكير الناقد عند الطفل.

كثير من منتجي سينما الأطفال وظّفوا روايات وأعمال أدبية رفيعة المستوى مثل: مغامرات روبنسون كروزو وأوليفر تويست، وجزيرة الكنز، وشخصيات ألف ليلة وليلة، كمصباح علاء الدين والسندباد.

فهذه الأعمال لم تكتب أصلا للأطفال، ولكن بعد تقديمها بشكل ميسّر ومبسط يلائم عقلية الطفل، لاقت انتشارا عالميا واسعا، فضلا عما تحمله من قيم وأفكار إنسانية راقية، سترتقي -بلا شك- بذائقة الطفل وتوسع مداركه.

وبعد تحويلها إلى أعمال تلفزيونية، فإن تأثيرها سيكون أكبر وأعمق لما يتميز به التلفاز عن الكتاب والإذاعة بقدرته على الاستعانة بكل العناصر السمعية والبصرية، إضافة إلى سهولة التعرض لها من قِبل الأطفال الذين لم يصلوا إلى مستوى القراءة.

ولهذا، فإن للتلفاز قدرة كبيرة على تجسيد المضمون الثقافي ودعمه وتثبيته، باعتماده على حاستي السمع والبصر.

يفتقر العالم العربي إلى الكاتب والمخرج المتخصصين في أدب الطفل، أو المتخصصين في تبسيط أدب الكبار وتحويله إلى منتج يلائم الطفل.

فكثير من منتجي برامج الأطفال العرب يعجزون عن فهم العالم الافتراضي للطفل، المستقل عن عالم الكبار، فالطفل له سماته النفسية الخاصة وتكوينه العقلي البسيط، لذلك فهو بحاجة إلى أدب يلبّي تطلعاته ويناسب تكوينه، فالكاتب أو المخرج عندما يرغب في اقتحام عالم الطفولة، فعليه قبل كل شيء أن يكشف خفايا وأسرار هذا العالم.

إن الطفل ينظر إلى الأشياء من زاوية جمالية، وتستهويه اللغة الخصبة الجميلة، فما أجمل أن يقدم المحتوى الأدبي أو الفني الموجه للطفل في قالب لغوي سليم، عن طريق الاستعانة باللغة العربية الفصيحة المبسطة الملائمة لمخزون الطفل اللغوي، وخلال هذه اللغة السليمة المنقولة على لسان الأبطال تتسلل إلى وعي الطفل كثير من مفرداتها وتراكيبها، ويتبنى ما تحمله من قيم وأفكار، وبذلك يحقق العمل التلفزيوني أهدافه الأدبية والفنية والتربوية دفعة واحدة.

ولعل غزو اللهجة العامية برامج الأطفال من أكبر المشكلات الثقافية التي يتعرض لها الطفل في القرن الحادي والعشرين، فكثير من المخرجين غير المختصين بعالم الطفل، وبدافع من رغبة الانطلاق والانتشار وترويج المنتج وتحقيق الربح المادي، فضّلوا إقصاء الجانب التعليمي والتربوي لسينما الطفل، وكلنا نعايش انحسار استعمال اللغة الفصيحة على حساب اللهجة الغارقة في عاميتها، وباتت تسلية الطفل هي الهدف الأبرز بمعزل عن الهدف التربوي والتعليمي.