تعدّ صناعة الأفلام السينمائية المصورة باحترافية عالية من أقوى عوامل التغيير والتأثير في المجتمعات، مع فارق فاعلية هذا التأثير على الإنسان سلبا وإيجابا، لا سيما الأفلام التي تعرض فيها الملاحم والبطولات، وتُذكر فيها الوقائع التاريخية التي تألفها الأعين وترنو إليها النفوس، ويُسلَّط فيها الضوء من خلال الشخصيات الحقيقية، التي عُرفت عبر التاريخ لرجالات المواقف الحاسمة والفنون القتالية في الميدان، والتي تسرد فيها المناقب الخاصة كالشجاعة والإقدام، أو خلال تلك الشخصيات الوهمية القائمة على التصور والخيال، المتضمنة للوصلات الفنية الجاذبة التي ترفع من درجة عملية التشويق والإثارة، إضافة إلى الإشارات المضيئة لأبعاد الوصف الزماني والشرح المكاني، والتي يتفنن في إدراج ملامحها مخرج العمل السينمائي بحسّه الفني وإدراكه الجمالي. كل ذلك يتم عرضه عبر سيناريو دقيق ومفصل لأحداث الفيلم. ما يهمني هنا، ليست الأدوات المستخدمة ولا التأثيرات الخاصة بالعمل -مع أهميتها- بقدر ما يهمني في هذا الشأن كيفية استغلال هذه الأدوات وتطويعها في إبراز الشخصيات المحلية، والاهتمام بالإنجازات والبطولات التي تمت في تلك الحقبة على أيدي أولئك الأبطال، وإظهار جمالياتها لعوام الناس بصورة مشرفة، تعبّر عن حقيقة الأبطال المنسية والمغمورة في جوف القراطيس والكتب وبين صفحات المجلدات. الأعمال الفنية الهادفة والأفلام التصويرية ستعرّف الناس بقيمة هؤلاء في كل المجتمعات على وجه العموم، ومجتمعنا على وجه الخصوص، في ظل التطور التقني والفني، وفي ظل توسع وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، التي بدورها ستنقل المحتوى ليتلقفه الآخرون، بصرف النظر عن الترتيب الزمني والمكاني لمجريات الأحداث. أسوق لكم هنا صورة مبسطة لشخصية واحدة فقط، وهي لبطل أسطوري من أبطال الجزيرة العربية، سطّر خلال مسيرته الطويلة أروع الأمثلة في الكفاح والشجاعة ومحاربة الأعداء، وقبل ذلك أودّ أن ألفت انتباه القارئ إلى أن كاتب هذا المقال ليس ممن يهتم كثيرا بتاريخ الأعلام والأبطال، غير أن الحديث عن هذا البطل عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المنتديات، بعد أن سطع ذكره وتداول الناس المقاطع التي تروي لنا بطولاته، هو ما حثني للبحث والتنقيب، لمعرفة صولاته وجولاته. والحق يقال، فقد وجدت -خلال بحثي- من خصال الشجاعة العجب العُجاب، ومن البطولات ما هي خارجة عن سياق العادة، إلا أن المساحة المخصصة لهذا المقال لا تكفي لسرد كامل تفاصيل تلك البطولات، لكن حسبي من ذلك أن أشير إشارة عابرة وبسيطة، ولمن أراد التوسع والتبحر، عليه الرجوع إلى أمهات كتب التاريخ، أو البحث عنه عبر محركات البحث على الإنترنت. فارسنا هو «بخروش»، وينحدر هذا البطل من قبيلة زهران في الحجاز، وهو قائد من قادة الدولة السعودية الأولى، ولي الحجاز وما جاورها، قُتل واحتُزّ رأسه إبان عدة وقائع على يد محمد علي باشا، الوالي العثماني لمصر آنذاك، بعد أن كان شوكة في خاصرتهم، وبعد أن أذاقهم الويل في ساحة القتال، وخلال ما سمعت وقرأت عن بطلنا هذا، طفقت أتساءل إلى يومنا هذا عن جهلنا المتمثل في محدودية ثقافتنا بمثل هذا البطل. أليست الشخصيات البطولية المحلية هذه أحق بالظهور على شاشات التلفاز، بدلا من تلك الشخصيات المملة والملتصقة ببطولات وهمية، امتلأت بها رفوف المنازل وشاشة الفضائيات؟. أليس هؤلاء الأبطال هم أفضل القدوات لنا ولأبنائنا، عوضا عن أشباه الأبطال الذين عجّت بهم المسلسلات التركية والأفلام المدبلجة على قنواتنا. لقد فرض علينا الإعلام -مرغمين- مشاهدة قصص مشكوك في صحتها يكتنفها الغموض والمبالغة، زُجّ بها على قارعة الفضائيات، وحملت لنا أشباه الأبطال. وإنّي إذ أوعز سبب ذلك إلى تفلّت زمام المبادرة، ووجود قصور وتقاعس في مثل هذه الأعمال، أو بذرائع ومبررات سخيفة، وإلا ما ضر إعلامنا لو أنتج عملا على شاكلة الفيلم السينمائي عمر المختار، أو على غرار المسلسل التلفزيوني رأفت الهجان؟. يقول المؤرخ الإيطالي جيوفاني فيناتي، الذي رافق غزوة محمد علي باشا في حربه ضد الدولة السعودية الأولى «لم يشهد العرب أشجع من بخروش في زمانه؟»، فأين نحن من شهادة هذا المؤرخ عن هذا البطل الفذّ. إن الأفلام بشكل عام تحمل دلالات ورسائل مؤثرة، كما أسلفت، منها الواضح والصريح، ومنها ما هو مبهم ومستتر بين طيّات الفيلم، بغرض تحقيق أهداف وأجندات خاصة، تُزرع في عقليات المشاهد بدرجات تأثير متفاوتة، لها انعكاسات مستقبلية. فهل نعي ذلك؟! ما زلنا نعلق الآمال على المسؤولين عن الإنتاج السينمائي.