علم الثورات؟ هو علم يشبه كثيرا النقد الأدبي الكلاسيكي، الذي يحاول تأطير الشعر ليأخذ شكله المدرساني في بحوره التي قد تحفظه شكلا لنرى ظاهرة تفشي (النظم) على حساب الشعر، ليأتي الإبداع الشعري ليهتك تلك المدرسانية ويكسر تلك المساطر النقدية في (فعولن فعولن وأخواتها)، ليأتي ناقد جديد عبر علم السنيات ومدارس تفكيكية تتجاوز الجاحظ والفراهيدي وتخريجات الجرجاني، فيؤطر هذا الإبداع الشعري (الحديث) ضمن أنساق يصطنعها لخلق مدرسانية أكثر رحابة واتساعا، قد تحفظه أيضا على مستوى الشكل لنرى ظاهرة تفشي (الخواطر) على حساب الشعر أيضا، ليبقى الشعر كالكهرباء الروحية تسري في كلمات الشاعر الحقيقي، سواء بلسان (محمد الجواهري) أو (محمود درويش)، ليبقى (الشعر ميلاد لغة) رغم أنف (شهادة الميلاد) التي يمنحها النقد، ومهما (استفحل النقاد) على فحول الشعر، فالنقد ناتج عن التراكم الكمي للشعر، كمحاولة لصناعة الفرق، أو بشكل أدق: (من يمتلك روح الشعر سنسرق منه أحقية امتلاك الفرق ولو في حق التسمية)، هكذا يقول ناقد ما في مكان ما.

نعود لعلم الثورات الذي يشبه علم النقد، حيث يدرس الثورات الاجتماعية أو السياسية الاقتصادية ليستبقها فتصبح الثورة بيد السلطة نفسها من باب (بيدي لا بيد عمرو)، لكن هل تسمى الثورات الداخلية النابعة من ذات الدولة (ثورة) أم إصلاحات؟ قد يكون من المنهجي أن نسمي ما تقوم به أي دولة من نشاط لتلافي الثورات الاجتماعية والتي تنعكس كثورة على باقي المجالات التي كانت سببا عكسيا فيها وهي (السياسة والاقتصاد)، فنسمي محاولات تلافي الثورة (إصلاحات).

من يقرأ كتابات ميخائيل غورباتشوف يكتشف أنه قد عاش بقية حياته مدافعا عن قراره في البيريسترويكا رغم مآلاتها على تفكك الاتحاد السوفياتي!!؟ ربما فكرته الإصلاحية ليست سببا في سقوط الاتحاد السوفياتي، بقدر ما هو التزمت الأيديولوجي للحرس القديم الممانع بصمت جعل اتحاد السوفييت يؤمن بانتهاء صلاحيته، فالمركزية الشديدة تورث لا وعي خطيرا قد يسقي نفسه السم دون أن يشعر.

لو صحَّ بعض ما ينسب لعلم النفس عن رغبات (اللاوعي) وطريقته في التنفيس وحل مشاكله، فإن النتيجة مخيفة على مستوى (لاوعي الشعوب) ومثاله: أن يكره أحد عمال المصنع عمله، ويشعر بأن حياته مجرد ضياع وتيه بين هذه المكائن لأن المصنع ألغاه كإنسان واعتبره مجرد ترس إضافي من لحم ودم داخل ماكينة هذا المصنع، ليرى الحياة اللائقة والإنسانية خاصة فقط بأصحاب المصنع وأعضاء مجلس إدارته من كبار التنفيذيين، وهنا يأتي اللاوعي فيستجيب لما تكرس فيها، فتقوم بما لا يقبله العقل الواعي، حيث يخطئ العامل (عن غير قصد من عقله الواعي) في التعامل مع الآلات بشكل يسبب له إعاقة عن العمل وعطلا في الآلة، تؤدي إلى تسريحه من المصنع دون اتهامه بقصد جنائي، ومثلها قضايا (السحر والعين) التي يشكوها بعض الأفراد كراهية لعمل معين مفروض بالإكراه الأبوي الاجتماعي أو السياسي... إلخ من أسباب متنوعة.

لاوعي الشعوب عندما يستقر عبر الدعاية الموجهة على أن الإصلاحات ليست سوى طبقة من مكياج التجميل، فإن هذا قد يخلق مزاجا لا إرادي يفاجئ أعتى السياسيين (هل هناك أعتى من القذافي وقبضته الأمنية لو لم يتدخل الناتو لمنعه من استخدام الطيران، لأصبح بشار مجرد طفل بجوار مذبحة زعيم زعماء أفريقيا التي سيفعلها)، ما حصل من تقبيل التراب تحت أقدام صدام عبر العقل الواعي يفضحه، ما حصل من صفع تمثاله بالنعال، كل هذا يعطي مؤشرا على حقيقة الشرعية التي عاشوها بنسبة تفوق التسعة والتسعين بالمئة.

الشرعية أصبحت محكا (شعبيا) في كل دول العالم حتى في المستبدة منها، والشرعية التي يحاول توجيهها الخصوم باسم الشريعة لا تختلف كثيرا عن الخصوم الذين يريدون توجيهها باسم الديمقراطية، فالشريعة ثقافة شعب، فالفهم الشرعي للمسائل الدينية لدى الموريتانيين يختلف عن الفهم الشرعي للمسائل الدينية لدى الماليزيين، وكلتا الدولتين أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، وتبقى القبلة الواحدة هي منوط الجمع بين مليار ونصف المليار مسلم، وتبقى نصائح ميكافيللي في خوف السلطة أهم من حبها، مجرد نصائح قروسطية تجاوزها الزمن، فقوة السلطة تستمدها من نظرية (العقد الاجتماعي) لا نظرية (الحق الإلهي) فالزمن لا يعود لعصر الكنيسة المهيمنة في زمن ميكافيللي، بل اتجه لعصر الثورة الفرنسية بكل ما فيها من مآسي روسبيير ومقصلته، وصولا لزمن الحريات الأربع التي نص عليها روزفلت عام 1941، وقررها العالم في إعلانه العالمي لحقوق الإنسان (حرية التعبير، حرية العبادة، التحرر من العوز، التحرر من الخوف)، والعالم فعلاً يتجه بكل قسوة لتقرير هذه المسائل، فحتى (تحرير العبيد) قد سار قبل الحريات الأربع على أكتاف تاريخ من الحرب الأهلية والتغيرات الاقتصادية في العالم أجمع، حتى بريطانيا العجوز لم تسلم من هذا المشوار الصعب بحروب خارجية (حربين عالميتين)، وبصراعات داخلية (الجيش الجمهوري الأيرلندي منذ 1919، وصولا لاتفاقية بلفاست عام 1997)، وما زالت قوية بشرعيتها التي تستمدها من شعبها ممثلة في قيمها الراشدة وملكيتها العريقة.