أعتقد أن مرحلة الدراسات العليا تعد أحد أجمل مراحل عمر الإنسان، وذلك لأنها تجبرك على أن تغوص في أصل أفكار تخصصك، ومن ثم تحللها وتفككها وتربطها مع الأفكار السائدة في زمنك ووقتك الذي تعيش فيه. وإذا كنت محظوظا، ودرست في واحدة من الجامعات المهمة والعريقة، فإنك سوف تتواصل مع عدد من الكبار والمتميزين في تخصصك. وهذا أيضا سبب آخر يجعل من هذه المرحلة من مراحل الإنسان الذهبية.

أكملت دراستي لمرحلة الماجستير في جامعة الملك سعود في قسم الإدارة العامة على يد دكاترة يعدون من أشهر وأميز المتخصصين في هذا المجال، وأفضالهم الفكرية والمعنوية، وحتى نصائح بعضهم الخاصة لي، ما زالت ترافقني في مسيرتي العلمية والعملية، وما زلت إلى اليوم، أتشرف برجوعي إلى عدد منهم لأخذ مشورتهم في بعض مناحي الحياة المتعددة.

أتذكر أنني أخذت متطلب مادة الموارد البشرية، عند الدكتور ناصر التويم، ورغم عدم ميولي الفكري إلى هذا العلم، إلا أن الدكتور ناصر كانت له طرقه المميزة في جذبنا إلى هذا التخصص ومن ثم التميز فيه. أذكر أن له عددا من الأفكار المهنية للموارد البشرية في الأنظمة الحكومية. يهمنا منها اليوم: أنه كان ينادي بضرورة إنشاء هيئة سعودية متخصصة في منح الشهادات الإدارية المهنية لكل من يستلم موقعا وظيفيا قياديا أو إداريا. وأنا الحقيقة لا أتفق معه في هذه الفكرة وحسب، بل أؤيده بشده وبقوة.

من أسوأ المظاهر في البيئة الحكومية أن يتم تسليم القيادة للأشخاص المنتمين إلى الطابع الفني الذي تقدمه الجهة الحكومية لمستفيديها، مثلا، المستشفى لا بد من طبيب، والمصنع لا بد من مهندس، والجهة الرقابية أو القانونية لا بد من قانوني، والجامعة لا بد من دكتور، والجهات العدلية لا بد من قاض، وووو إلخ.

يقول الدكتور نواف كنعان في كتابه الجميل (اتخاذ القرارات الإدارية بين النظرية والتطبيق). إن هناك اتجاها في الدول النامية يرى أن اختيار القادة المتخصصين لقيادة المشروعات المنسجمة مع تخصصاتهم يضمن نجاح هذه المشروعات في تحقيق أهدافها. وبالمقابل فإنه ليس من المناسب اختيار القيادات غير المتخصصة في قيادة القطاعات الفنية لأن هذا الاختيار سينتهي بالفشل.

ويضيف د. كنعان: بالرغم من أن هذا الاتجاه يلقى التطبيق الواسع في الدول النامية، إلا أن التطبيقات العملية أثبتت أن اختيار القيادة المتخصصة على أساس فني لا يعني بالضرورة نجاح هذه القيادات في إدارة مشروعاتها الفنية، وذلك لأن توافر المهارة الفنية لدى القائد ليست كافية لتمكينه من الإحاطة بالنشاطات الأخرى الإنسانية والإدارية في المنظمة. ولذلك فإنه يرى أن نجاح القيادات الإدارية في الدول النامية في قيادة عمليات التنمية لا بد أن يرتكز على قرارات إدارية صائبة. وهذا الأمر يتطلب بطبيعة الحال إعداد القيادات المتخصصة وتدريبها وتطويرها وتنمية قدراتها الإدارية والإنسانية والذهنية بما يتوافق مع متطلبات التنمية التي تقودها حكومات تلك الدول.

إذاً، خلاصة فكرة الدكتور كنعان، أنه إذا كان لا بد من وضع القيادات الفنية على رأس هرم الجهات الحكومية في الدولة، فإنه إذاً لا بد من تدريبهم وتطويرهم وبشكل مكثف على المهارات القيادية اللازمة لتولي العمل الإداري البحت على رأس الهرم الحكومي.

وهذا الأمر يتفق مع فكرة هذا المقال ولكن من زاوية أخرى، حيث باعتقادي، أن إنشاء هيئة متخصصة في منح الشهادات المهنية لكل من يرأس أو سيرأس إدارة في القطاع العام (ومن الممكن في خطوة لاحقة القطاع الخاص والقطاع غير الربحي) سيتيح نقطتين:

الأولى: أنه سوف يجبر القادة في المنظمات على تدريب موظفيهم الذين يرغبون في تسليمهم مهام الأعمال الإدارية المستقبلية في الصف الأول والثاني على أساسيات ومبادئ علوم القيادة والإدارة.

الثانية: أنه سيلزم الطموحين بالترقي الوظيفي في منظماتهم، على التعلم والدراسة والاطلاع على المجالات الإدارية المتنوعة، ولو بشكل ذاتي.

كلتا النقطتين هي مجرد وسائل للوصول إلى المعرفة والإدراك بالأساسيات والمبادئ للقيم التي تمدها روافد العلوم الإدارية والقيادية لكل العناصر التي ترغب في تولي زمام السلطة والنفوذ في المنظمات والكيانات الإدارية، وبالتالي فهي مجرد طريق يوصلنا في نهاية المطاف إلى بيئة عملية تنافسية ومتميزة.

كما أن من الممكن أن يكون لهذه الهيئة عدد من الأقسام الفرعية، قسم متخصص في الإدارة الحكومية، وآخر في الخاص، وقسم مهتم بمنح الشهادات المتخصصة في الإدارة الصناعية، وآخر للإدارة الصحية، وقسم تكون مهمته منح شهادات لاجتياز الموظف اختبار إدارة الأعمال التجارية. وهكذا تتعدد الأقسام التي تحتاجها الدولة في ظل توسعها في برامج الرؤية.

في النهاية عزيزي القارئ، إن كنت قرأت كتاب غازي القصيبي (حياة في الإدارة) ونسيته، أو كنت ممن لم يقرأه بالأساس، فإني أدعوك لقراءة الصفحات الآتية: من نهاية 242 إلى بداية 246.