التقيت بوزير التعليم الدكتور حمد آل الشيخ في لقاءات تعليمية متنوعة منذ سنوات، أي قبل أن يتسلم حقيبة (التعليم) المفعمة بكثير من التحديات و(الإشكالات)، والحقيقة أن تفاؤلا كان يغمرني حينها، ولا شك أن ذلك التفاؤل أصبحت له مبررات مؤكدة، بعد أن بدأ عهده وزيرا في المؤسسة التعليمية الكبرى في بلادنا، حتى أن تفاؤلا يلازمني اللحظة - مع كثير من الحماس والثقة - لم أعهده، وأنا أقارب نثارا للتعليم وشجونه من مقاربات كثيرة، كانت هدفا وهاجسا لي في كتاباتي الأخيرة في هذه الصفحة الأثيرة، لذلك فربما الفرصة سانحة الآن لتناول أبرز ما أراه مهما وحاسما في قضايا المنظومة التعليمية:

(1)

أول المواضيع التي كنت ولا زلت أراها تعوق سير عجلة التعليم في بلادنا كثرة البرامج التعليمية وتداخلها، بل بعضها يتوقف فجأة ويستحدث بديلا لها، برامج أخرى مشابهة.. ولعلي في هذه الأثناء أتساءل عن مصير البرامج والمشاريع التي كانت مقررة في أجندة الوزارة قبل خمسة أشهر فقط في عهد الوزير السابق الدكتور العيسى: (مشروع التعليم «تطوير» - البرنامج الإشرافي على مركز الحوار الوطني ـ برنامج «مكن» - برنامج «كفايات» - برنامج بوابة المستقبل - مشروع تطوير القدرات البشرية - برنامج التفكير الناقد.. نماذج فقط من بقية كثيرة أخرى)؟!

وبالتأكيد فإن تلك التداخلات والتقاطعات في برامج العمل تسلب من البرامج الجادة تأثيرها الحقيقي، وتقود مسيرة العمل كله لعشوائية الأهداف وضعف المخرجات!!

(2)

أزعم أن من أهم أسباب ضعف مخرجات التعليم فيما يختص بالحصيلة المعرفية والمستوى العلمي (الحقيقي) لطلابنا، هو الأنموذج الذي تجري عليه اختبارات المراحل التعليمية حتى الآن، وهو الأنموذج الذي اتفق العرف التعليمي على تسميته بالاختبار الموضوعي (الذي يتضمن أسئلة الاختيار من متعدد، والمزاوجة بين قائمتين من المصطلحات والمفاهيم، والتأكيد على صحة العبارات أو خطئها)، وفي هذا الأنموذج لا يطلب من الطالب كتابة كلمة واحدة، بل كل ما يفعله هو تظليل الإجابة الصحيحة في دائرة صغيرة بخيارات بسيطة ومتعددة للحل:

فإما أن يكون عارفا حقا بالإجابة الصحيحة، أو أن يترك للحظ فرصة للاختيار، أو يمد نظره ببساطة لمن حوله بالقرب (جدا) لاقتناص موقع التظليل باعتبار ضيق مساحة الفصول الدراسية عادة، أو أن يستنتج الإجابة من سياق عبارة السؤال المباشر.

عادة (أيضا)! هذه الطريقة في صياغة الاختبارات زادت من عمق جراحنا من (كتابة) أبنائنا (الضعيفة) إملاءً ونحوا وصرفا ورسما، فقد صاروا - أصلا - لا يكتبون، واستقر في وعيهم منذ سنوات أنهم ليسوا في حاجة (للكتابة) لقياس تحصيلهم العلمي.

أما المفارقة الأكثر إيلاما فهي أن وحدات دراسية كاملة من المقررات الدراسية تتطلب التخلي عن ذلك الأنموذج القياسي (التلويني)، وأن يكتب الطالب فعلا إجاباته على أسئلة بعينها: فهل تجدي الأسئلة الجديدة مع وحدات دراسية في اللغة العربية مثلا:

تتمحور حول (كتابة النصوص الوظيفية من تقارير ومحاضر ورسائل إدارية، أو أن يدلل الطالب أو يستنبط منهج الاستدلال المقصود: استقراء - استنتاج - مماثلة وقياس، أو مهارات كتابة الخطبة من خلال المقدمات الواعية وأسلوب العرض المناسب والخاتمة الجيدة)، إلا أن تكون الأسئلة على تلك الوحدات الدراسية نظرية فقط، حتى تنسجم مع الأنموذج التظليلي، وبالتالي ينعدم تماما تحقق الحصيلة المعرفية التطبيقية، والذي هو الهدف الرئيس من دراسة مثل تلك الوحدات.

وبالطبع فإن طريقة الاختبارات تلك تكون في صالح إراحة المعلم من عناء القراءة والتصحيح، ما دام أن جهاز قراءة تلوين الطلاب هو الذي يتكفل بالمهمة كلها!!

الحقيقة أن المشهد يزخر بخلل كبير، كان من الممكن حله بدمج أسئلة الكتابة التقليدية بالأنموذج الجديد، وأن يستقر في وعي قادة التعليم واختباراته ومعلميه أن أسئلة (الكتابة) يمكن أن تتوافر على أعلى قدر من (الموضوعية) كذلك، متى ما أحسن المعلم صياغتها وتيقن من أن إجاباتها محددة ودقيقة!

(3)

التحولات والتغييرات المستمرة في (المقررات الدراسية) تفضي إلى عدم رسوخ المحتوى العلمي والأفكار الأساسية للعلوم والمواد الدراسية، وعندها تنعدم الفرصة والوقت الكافي لرسوخ وتغلغل مبادئ العلوم والآداب في ذهنية الطالب والمعلم والمشرف التربوي وبقية عناصر العمل التعليمي برمته.. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن الكتب الدراسية الخاصة بالنظام الفصلي - المنتهي مع آخر أيام العام الدراسي - كتب جيدة ونافعة وتتوافر على مناهج علمية صحيحة ومنسجمة ومثيرة للتفكير وتطبيقات الواقع، ويمكن الاستفادة منها في أي نظام تعليمي للأعوام الدراسية القادمة.

من العبث وإهدار ميزانية التعليم أن يتم الاستغناء عن هذه الكتب (على سبيل المثال، اشتمل مقرر اللغة العربية للمرحلة الثانوية على النحو والصرف والأدب ونصوصه، والخطابة والإلقاء، وأساليب ومناهج الإقناع العلمي والتفكير الناقد، وكتابة النصوص الوظيفية، والقراءة وأنواعها وطرق جعلها سريعة وفاعلة في الوقت ذاته، وهي بلا شك موضوعات في غاية الأهمية والشمولية والعلمية)!

(4)

لا أدري ما هو مصير مقرر (التفكير الناقد والفلسفة)؟ ولكن ليت قادة التعليم يعرفون حقيقة أن بعض البرامج والمقررات لا يمكن أن تأتي هكذا (خبط..لزق)! فمهارة التفكير الناقد تحتاج إلى عقلية علمية scientific لفهمها ثم تفعيلها!، هل استقرت في وعي أبنائنا مبادئ المنهج العلمي والموضوعية وشمولية المعرفة وتراكميتها عموديا (وليس أفقيا)؟.

هل تلاشت تماما من ذلك الوعي الناشئ أطياف التقديس للأفكار والشخصيات والتفكير الخرافي أو الأسطوري؟، ثم هل اطمأنت الوزارة إلى من سوف يدرس هذا المقرر؟، هل هم ذاتهم معلمو المهارات الحياتية؟، (والمسألة أكبر من ذلك بكثير)!

(5)

..وأخيرا، فلا زالت ثمة قضايا جوهرية يجب طرحها على الرأي (التعليمي) العام، ولكن ضيق المساحة سيرجئ نثر تلك القضايا في نثار قادم بإذن الله.