أمسك الرجل الجليل بكف حفيده الصغير بقوة وعزم، وهو يقطع الوادي بخطوات ثابتة قوية، ويسير في الدنيا وكأنه يبحث عن شيء ما.

وكانت علامات الحيرة بادية على وجه الولد البريء وهو ينظر إلى جده بين الحينة والأخرى، ويتأمل وجهه المبجل المرفوع وقامته المديدة المشدودة.

لحية الشيخ البيضاء القصيرة تتساقط عليها حبات لامعة من العرق، والعيون الحالمة متعلقة بخط الأفق، وكأنها متلهفة إلى شيء ما سيظهر من بعيد، والتجاعيد الغائرة في وجهه كأنها مجرى لأنهار العرق الذي تصبب على مر السنين.

وشعر الولد الصغير وكأن جدّه يزوده بقوة سحرية وعزيمة جبارة، تسري إليه خلال تلك القبضة القوية التي تطبق على كفه الهزيل.

وأخذ الاثنان يضربان في الأرض، يتوارى النهار وينشر الليل خيمته وهما لا يتوقفان عن المسير. يصعدان إلى قمة الجبل ويهبطان إلى أعماق الوادي دون كلل أو توقف، حتى وصلا إلى مكان تنتشر فيه بعض الزهور العطرة، فقطف الولد زهرة جميلة زاهية الألوان ومد يده بها إلى جده قائلا بفرحة: انظر يا جدي، فنظر إليه الرجل الجليل نظرة إشفاق، وأخبره بأن لا وقت لديهما لمثل هذا الآن. واستمرا في سعيهما بصمت وعزيمة، حتى انتهيا إلى أرض ممتدة تحت ظل جبل شامخ، طيبة الهواء وكثيرة الماء، فالتفت الرجل إلى حفيده وقال: هنا يا ولدي، في هذا المكان سنبني سويا مدينة جميلة، وسنجعلها المدينة المثالية، بها قصور من ذهب ومنازل من لؤلؤ، جدرانها بيضاء كالفضة، وسنجعل الأنهار تجري في وسطها من المسك والعنبر، يأتي إليها البشر من كل صوب وجانب، يتقاسمون المحبة بينهم، وتملأ نور الشمس نفوسهم، يعيشون في سلام دائم، ولا يعرفون الحقد أو الكراهية أو الحسد.

وأخذ الرجل المهيب يعمل بلا توقف، معوله يرتفع ثم يسقط كسوط من النور ليشق الصخر ويقطع الحجر ويحفر الأرض، لا يهتم بالعرق الذي كسا وجهه المضيء وجسده القوي، أو بالتراب الذي علق بلحيته البيضاء، ولا يلتفت إلى الشمس وهي تشرق أو تغرب، ولا يهتم بليل أو نهار، ولا بعطش أو جوع. ولكنه كان يسمع صوت حفيده الصغير يناديه بين فترة وأخرى. يا جدي، فيرد عليه قائلا: لا وقت لدينا يا ولدي، اعملْ وساعدني.

وأخيرا، وبعد زمن غير قصير توقف الرجل عن العمل وهو متعب، ورفع رأسه الوقور لينظر حوله ويرى بإعجاب وفخر ما صنعت يده القوية.

كان العرق يتصبب من وجهه ومن جسده الهائل الممشوق، لقد أنجز العمل الجبار، وها هي المدينة العظيمة تقف شامخة عند سفح الجبل، متناسقة، بديعة، مدهشة، تلمع في السماء كحبات من اللؤلؤ والفضة، ونظر الرجل الجليل إلى حفيده قائلا: ها هي المدينة المثالية يا ولدي، لقد أقمناها بسواعدنا أنا وأنت، وما علينا إلا أن نسكنها ونستمتع بها. ما أجملها، ما أروعها، وكأنها هبطت من السماء!.

فتدحرجت دمعة بريئة من عين الولد الصغير الذي رد قائلا: هذا ما كانت أحاول أن أخبرك به يا جدي الجليل، فأنت لم تترك لي مكانا صغيرا أزرع فيه زهرتي الجميلة هذه، التي حافظت عليها طوال هذا الوقت، فأين أزرع هذه الزهرة الباسقة الآن؟ وكيف تنبت الورود؟ ومتى تأتي الفراشات وتغرد البلابل؟ يا جدي، كيف تريدني أن أستمتع بهذا المكان؟

بهت الرجل الوقور وكأنه تنبه فجأة إلى شيء عظيم كان قد أغفله، وانحنى ليمسح الدمعة البريئة من عين الطفل، ثم أمسك بيد حفيده الصغير بقوة وعزم وقال له بإشفاق وحب: لا تحزن.. سنبدأ يا ولدي من جديد.

* الحياة في مدينة لا توجد

* صدر عام 2017

من مواليد مدينة جدة.

بدأ دراسة العمارة لعدة سنوات في ألمانيا، وأنهاها بجامعة الرياض (الملك سعود حاليا).

عمل مهندسا في أرامكو بالظهران، ثم معيدا بكلية البترول والمعادن جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.

حصل على ماجستير العمارة (هارفارد 1973)، ثم ماجستير التصميم العمراني (هارفارد 1975)، ثم دكتوراه العمارة (جامعة بنسلفانيا 1987).

له عدد من المقالات المتخصصة، والاجتماعية والأدبية، في بعض مجلات وصحف السعودية، والمصرية وغيرها.

عضو في اللجنة الاستشارية لمجلة معمار التي كانت تصدر في باريس لعدة سنوات.

عضو مجلس الشورى السعودي لثلاث دورات، ولمدة 12 عاما من 2001 - 2013.