إذا أرادت النسوية السعودية أن تسير وفق فاعلية تجعلها خارجة من نسيج المجتمع لا خارجة عليه، فعليها أن تبتعد عن قاموس الصحوة السرورية والإخوانية الذي كان يمتدح سرا الداعشيات اللائي يخرجن من البلد تهريبا إلى دولة الخلافة الموهومة في الشام والعراق، وتبتعد عن قاموس العولمة الإمبريالية الذي يغرر بالمراهقات ليهربن من أخطاء أسرية جرمها القانون السعودي بأنظمة مكتوبة.

على النسوية السعودية أن تؤسس نفسها قانونيا على ما هو موجود وتعتز بوجوده، وربما أغلب الإشكالات الموجودة تتركز في ضعف تفعيل هذه الأنظمة بسبب جهل البعض بتفاصيلها، وبسبب حداثة صدور بعضها، وعلى النسوية السعودية نشر الوعي الحقوقي والنظامي من خلال هذه الأنظمة التي سنها المشرع السعودي واستثمارها بمزيد من المطالبات المشروعة.

النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية أشار مثلا من خلال المواد (8، 9، 10، 11، 17، 26، 28، 43) إلى مقومات المجتمع السعودي وغيرها مما يخص الحريات وحق العمل، بالإضافة إلى المادة (22) التي نصت على أن (التنمية الاجتماعية تتم وفق خطة علمية عادلة)، وبهذا نستطيع تأطير المطالبة وفق النطاق الدستوري الذي تستطيع من خلاله النسويات التحرك وفق خطة و(خارطة طريق) بشكل إيجابي وفاعل (ودون قلق)، فهذه النصوص الدستورية في النظام الأساسي للحكم (تنظم تصرفات الأفراد فيما بينهم أو مع الدولة، والقاعدة القانونية هي الأساس الذي يتكون من مفهوم مصطلح القانون، الذي عرفه الفقهاء بأنه مجموعة القواعد الملزمة التي تصدرها السلطة المختصة في الدولة لتنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم أو علاقاتهم بالدولة). نقلا عن موقع هيئة الخبراء بمجلس الوزراء.

ويبقى تفسير هذه المواد عائدا للوعي الحديث الذي يتناسب وما وقعته المملكة العربية السعودية من اتفاقيات دولية، فالاستناد لهذه المواد بشكل حرفي إن هو إلا مغالطة (سرورية إخوانية) بما يوهم غير المطلع وغير المدقق أن هناك تناقضا صريحا ما بين (النظام الأساسي للحكم) وما بين (الاتفاقيات الدولية) التي وقعتها الدولة، فالمادة العاشرة تقول: (تحرص الدولة على توثيق أواصر الأسرة، والحفاظ على قيمها العربية والإسلامية، ورعاية جميع أفرادها، وتوفير الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم)، فالعبارة الأخيرة الخاصة بتوفير الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم تشمل الذكور والإناث على حد سواء، وتنفي عنها مغالطات المغرضين الذين يصمون الدولة بالرجعية والتخلف عندما تصر على قيمها العربية والإسلامية، ويصفونها بالتبذل عندما تسير في طريق الحداثة والمدنية والتجديد، حيث إن كل ما يعرقل (تنمية الملكات والقدرات للجنسين) يعتبر حجر عثرة يضعه الرجعيون، محتجين بنصوص النظام نفسه، غافلين عن حقيقة الحرية المضمونة في (توفير الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم)، وعبارة (وفق الشريعة الإسلامية) التي يحتج بها الصحويون والمنصوص عليها في أكثر من مادة من النظام الأساسي للحكم لا يقصد بها أبدا شريعة داعش أو شريعة السرورية والإخوان المسلمين أو شريعة إيران، بل يقصد بها تعاليم الإسلام الذي نزل رحمة للعالمين، واتفق عليها عموم المسلمين بلا كهنوت أو رهبانية ابتدعوها لرجل الدين، فتلك مشاكل (كنيسة وبابا) في القرون الوسطى لم يعرفها الإسلام الحقيقي، وقد خضع لها الإخوان المسلمون في مرشدهم وبيعتهم، وبعض السلفية المخدوعة بهم، ولو سار المؤسس على شريعة الإخوان المسلمين أو إخوان السبلة ما قامت لهذه الدولة قائمة، لكنه سار على بصيرته كملك عربي من طراز رفيع ونادر، فلم تغره همهمتهم بالحمدلة والصلعمة، ولهذا قال: (كلنا إخوان وكلنا مسلمون)، بلا تفرقة طائفية أو عرقية، فسيرة الملك عبدالعزيز قولاً وفعلاً تنفي عن الإسلام عموما وعن الدعوة السلفية خصوصا تهمة التطرف والإرهاب أكثر مما تنفيها سيرة ومؤلفات أعرق رجال الدين فيها، ولهذا فعلى بعض السلفية التي تنسى نفسها غرورا وتيهاً أن تتواضع وتنسب الفضل الحقيقي لصاحب الفضل والمجد التليد في وجود دولة حديثة يفخر بها السعوديون بكل طوائفهم ومذاهبهم الإسلامية على هذا التراب الوطني، كشاهد على التعددية والتسامح وعلى عظمة عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، الذي آوى العربي الدرزي سلطان الأطرش في نضاله ضد الفرنسيين، كما ألهم العربي المسيحي أمين الريحاني في كتاباته... إلخ من أمثلة مختلفة، وما كان هذا التنوع حوله إلا لما اجتمع فيه من عظمة العروبة وسماحة الإسلام، ولهذا كانت أول مستشارة للملك عبدالعزيز الجليلة (نورة بنت عبدالرحمن)، وكان هو في عز نخوته يرفع الصوت: (وأنا أخو نورة).

أخيرا أيتها النسوية السعودية (وأخص بالذكر من النسويات الفئة الشابة النابهة المتحمسة) أقول رأيا من أب إلى بناته وقد شارفت على الخمسين: مشوارك طويل بعمر أجيال، فلا تتزببي قبل أن تتحصرمي، وليكن النظام الأساسي للحكم في مواده التي تلامسك هو خريطة طريقك، وليكن في ذهنك دائما، (تماسك الأسرة فهي نواة المجتمع) واجعلي مجتمعك يفهم أن التماسك الاجتماعي للأسرة لا يعني رضا المرأة على الضيم والقهر والغبن أبدا، بل هي إنسان يتمتع بالمواطنة الكاملة بكل ما تعنيه كلمة مواطن في أي دولة حديثة، والأنظمة التي وضعتها الدولة في كثير منها تقف معك، فقط احذري على موقفك الإنساني من الابتذال، وموقفك الفكري من الإقصاء لبنات جنسك اللائي يعشن في ظروف ليست ظروفك، ولا يملكن قاموسك الثري بمفردات تفوق سذاجتهن ونقاء قلوبهن، تذكري الشعرة التي بين المزايدة على أمثال هؤلاء البسيطات وهن كثر، وبين الوقوف معهن بحقوق يجهلنها وقد يقفن ضدها أحيانا، فكثير من أوضاع الحياة القاسية تصنع المازوخية وتصنع عقدة ستوكهولم، وأعانكن الله على المصابات بهذه الأدواء وينطقن بنفس لسانكن الفصيح، والدولة ستقف مع حقوق المرأة وفق ما التزمت به، لكن تذكري أن الدولة ليست قاربا صغيرا بماطور سريع يقطع النهر بشخصين، بل هي كيان ضخم كالناقلات الكبرى تسير بسرعة أقل، لكن بقدرة تقطع المحيطات.