في بداية الستينيات الميلادية من القرن الماضي وفي مدينة برلين، طالبان من أبناء مكة في بداية سن الشباب يبحثان في برلين الغربية عن مطعم خفيف على الجيب ليتناولا فيه وجبة غذاء جيدة، يكاد الجوع يفتك بهما، والتعب دب في جسديهما بسبب السير والتجول في تلك المدينة الكبيرة لوقت غير قصير.

أخيرا وجد الشابان مطعما من مطاعم الخدمة الذاتية والوجبات السريعة التي يمكنك فيها أخذ ما تريد من الطعام بنفسك وتتناوله إما واقفا أو جالسا على مقاعد خشبية نظيفة وبسيطة دون خدمة من عامل أو مضيفة أو ما شابه.

أخذ كل من الشابين صينية بلاستيكية متوسطة الحجم ووضعا عليهما ما يحتاجانه من طعام وخبز وماء أو عصير، واتجها بعد ذلك نحو مكان في طرف المطعم يسمح لهما بتناول طعامهما وقوفا وفي هدوء، وبينما هما يستمتعان بتناول الطعام بعد جوع شديد إذا بهما يسمعان صوتا جهوريا من جانبهما الأيمن يتساءل: الإخوة عرب؟

كانت نبرة الصوت تدل على الدهشة الممزوجة بقدر من الإحساس بالسرور والفرحة، التفتا إلى مصدر الصوت فوجدا عملاقا قمحي البشرة، ويده الضخمة ذات المقاييس غير الاعتيادية تدل على أن صاحبها يشتغل في حرفة يدوية، بينما الهيئة العامة للشخص صاحب الصوت تدعو إلى الحيطة.

كان الطالبان يبدوان على النقيض من بعضهما البعض شكلا ومضمونا، فأحدهما كان طويلا ونحيفا إلى درجة ملحوظة، بينما الثاني يميل إلى القصر والسمنة قليلا، كان الأول لا يهتم بلبسه أو شكله العام، بينما الآخر يبدو دائما أنيق الملبس ومهتما بهيئته، كذلك كان الأول يحب الطعام حبا جما، وإذا انخرط في تناوله دخل في مرحلة شرهة فلا يرى ولا يسمع ولا يتكلم، أما الآخر فكان لا يهتم بالطعام إلا إذا وجد رفيقا له وبكميات محدودة جدا.

من سوء الحظ أن الشخص الغريب وجه كلامه ونظراته مباشرة إلى الشاب الذي كان أمامه، وهو ذلك الذي لا يصغى ولا يتحدث عند تناوله الطعام، وكانت نبرة السرور والفرحة بادية على سؤال الشخص الغريب، إذ كان في تلك الأيام ليس من المعتاد أن تجد شخصا عربيا قادما من الشرق في أحد مطاعم الوجبات السريعة، أو حتى في الطرقات العامة في المدن الأوروبية.

استمر الشاب الذي كان السؤال موجها إليه في طعامه وهز رأسه بالإيجاب دون أن يرفع عينيه عن الطعام، ودون أن يكلف نفسه حتى بالنظر إلى صاحب السؤال، وهنا انطلق ذلك العملاق يتحدث بالعربية وبلهجة لم يفهم منها أي من الطالبين إلا كلمات قليلة، ومع ذلك كان الطالب الأكول يهز رأسه بالإيجاب وباستمرار أثناء حديث الرجل الضخم، ولكن دون أن ينظر إليه أو يبدي أي شكل من التجاوب مع ما يقول، أما الطالب الآخر فقد توجس شرا وسحب صينيته مبتعدا بضع خطوات عن صديقه وعن الرجل العملاق.

استمر الوضع هكذا لبضع دقائق، العملاق يتحدث بلغة عربية غير مفهومه والطالب الأكول يهز رأسه إيجابا وكأنه يتابع ما يقول كلمة كلمة، ولكن فجأة وبعفوية تامة ألقى العملاق سؤالا دارجا وبلهجة مفهومة قائلا: فاهم علي؟!

هنا، وهنا فقط، توقف الطالب عن تناول الطعام وعن هز رأسه ونظر إلى العملاق مباشرة وأجابه قائلا: كلا لم أفهم شيئا!

وياليته لم يفعل ذلك فقد انفجر العملاق صارخا بأعلى صوته مازجا العربية مع الفرنسية والألمانية وهو في قمة الغضب والجنون، يتميز غيظا ويحاول جاهدا أن يمنع نفسه من القضاء على المسكين الذي أمامه بضربة واحدة فوق رأسه، ويخبط بدلا من ذلك بيده الرهيبة على السطح المخصص للطعام أمامه. توقف الطالبان عن الطعام بعيون جاحظة.

وبالطبع لفت ذلك انتباه جميع من كان في المطعم، وأخذ الجميع ينظر للموقف بفضول ودهشة، وأخذ الطالبان ينظران حولهما في حيرة وذعر، لو شاء هذا العملاق لقضى عليهما بضربة واحدة من قبضة يده التي تشبه المطرقة الكبيرة وهما لا يعرفان حقيقة أي خطأ بدر منهما تجاه هذا الإنسان العجيب أو أي إساءة ارتكباها.

وفجأة وبدون مقدمات توقف الرجل عن الصريخ، وبدأ ذلك العملاق يبكي بتشنج وبصوت مسموع ودموع تنهمر من عينه، توقف الزعيق والخبط على الطاولة، وبدأ صوت العويل يُسمع في كل أرجاء المطعم، كل هذا ورواد المطعم ينظرون لهذا الموقف دون أن يفهموا شيئا، بينما تسمر الطالبان في مكانيهما وأخذت أعينهما تدور باحثة عن أقرب باب للهروب، وإذا بذلك العملاق يتحدث مرة أخرى بلغته العربية المكسرة ودموعه لا تزال تنهمر من عينيه قائلا لعنة الله على الاستعمار الفرنسي، أنا عربي مثلكما من الجزائر، ولا أستطيع التحدث معكما بلغتنا العربية، وأنتما لا تستطيعان أن تفهماني، هذا ليس ذنبي ولا ذنبكما ولكنه نتيجة الاستعمار المجرم.

هنا اختفى الخوف من قلبي الشابين وحل محله إحساس بالعطف والتعاطف، اقترب أحدهما من الرجل العملاق وهو لا يزال يجهش بالبكاء ووضع يده على كتفه لتهدئته، وأفاده أنهم يفهمون ذلك ويتعاطفون معه، وأنهم مع ذلك أبناء أمة واحدة لن يفرقها استعمار ولا مستعمر، وما هو إلا مجرد اختلاف في اللهجات العربية.

وأصر الطالبان أن يجلس معهما ذلك العملاق على طاولة واحدة في ذلك المطعم لتناول القهوة وبعض المرطبات، حدث ذلك ورواد المطعم من الألمان وغيرهم يتحرقون شوقا لمعرفة ما يحدث، وهم في قمة الحيرة والدهشة بعد الانتهاء من القهوة، ودع الشابان صاحبهما العملاق وخرجا إلى الشارع غير مصدقين أنفسهما ويملأ قلبيهما حسرة حقيقية على إثر ما ذكره ذلك العملاق الذي يتحسر على عدم مقدرته على التحدث جيدا بلغته الأم.

أثناء سيرهما في الطريق نظر أحدهما إلى الآخر قائلا من الآن فصاعدا يجب أن يكون حديثنا بالألماني فقط، فأجابه الآخر: ولكن والله مهما فعلت وحاولت التنكر سحنتك هذه وشكلك العام يفضحانك ويكشفان أنك قادم من أعماق القشاشية (حي سكني قديم من أحياء مكة المكرمة).

* الحياة في مدينة لا توجد

* صدر عام 2017

من مواليد مدينة جدة.

بدأ دراسة العمارة لعدة سنوات في ألمانيا، وأنهاها بجامعة الرياض (الملك سعود حاليا).

عمل مهندسا في أرامكو بالظهران، ثم معيدا بكلية البترول والمعادن جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.

حصل على ماجستير العمارة (هارفارد 1973)، ثم ماجستير التصميم العمراني (هارفارد 1975)، ثم دكتوراه العمارة (جامعة بنسلفانيا 1987).

له عدد من المقالات المتخصصة، والاجتماعية والأدبية، في بعض مجلات وصحف السعودية، والمصرية وغيرها.

عضو في اللجنة الاستشارية لمجلة معمار التي كانت تصدر في باريس لعدة سنوات.

عضو مجلس الشورى السعودي لثلاث دورات، ولمدة 12 عاما من 2001 - 2013.