في إحدى ليالي مكة المكرمة التي تسبق الشهر المبارك، كنا نطل من سطح الحرم المكي الشريف على جمالية المطاف والطائفين حول الكعبة الطاهرة، وتبادر إلى ذهني الحشود الهائلة.

ما آلية العمل التي تخدم حركتهم وجولاتهم، وسعيهم بين الصفا والمروة، والصلاة خلف المقام، والتضلع من ماء زمزم؟ وكيف سيقضي العمّار والزوار رمضان الخير ولياليه وتراويحه؟، وكيف تتم رعاية هؤلاء البشر الذين جاؤوا من كل حدب وصوب، متجهين إلى الكعبة الطاهرة، تحفظهم عناية الله وفضله وكرمه، أنْ مكّنهم من الوصول إلى بيته العتيق؟.

كانت الإجابة حاضرة في ذهنية رجال أخلصوا لله عملهم على مدى 24 ساعة، رُسِمت فيما سُمّي بالمبادرات الرمضانية التي اعتمدها الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي فضيلة الشيخ د. عبدالرحمن السديس، الذي أعلن جاهزية الرئاسة، إحدى منظومات الخدمة التي تقدمها حكومة المملكة لقاصدي مكة المكرمة والمدينة المنورة خلال العام كله، ولكنها في رمضان والحج تأخذ زخما عاليا، بتوجيهات من ولاة الأمر، على حد تعبير السديس.

وتتضمن هذه المبادرات مجموعة من الخدمات التي يقوم عليها فريق عمل متكامل، يتجاوز 12 ألف موظف وموظفة، وعلى مدار الليل والنهار، تماشيا مع حركة المطاف التي لا تهدأ، بفضل الله وكرمه، وإلى أن تقوم الساعة.

هذه المبادرات أخذت عنوانا عاما أطلقه مستشار خادم الحرمين الشريفين، أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل، عنوانه «كيف نكون قدوة»، وتحتها جاء تنوع الخدمة لهؤلاء بعناوين محببة إلى النفس: أمنك هدفنا، سلامتك غايتنا، وغيرها. ومن هذه المبادرات التي تجاوزت 100 مبادرة يحلو لك أن تطوف حول الكعبة، أن تلامسها وتعرف عنوانها، هؤلاء الشباب الذين يجوبون الحرم في سقيا زمزم، في صحن المطاف، وعنوانه «أنا متطوع» و«نحن عون لكم»، والخدمات الإسعافية، والعربات المتحركة التي تتجول لحمل كبار السن والعجزة، وما يحلو لنا من ذكره خلال التطواف على مبادرات رئاسة الحرمين، الخدمة الاجتماعية المتنوعة بفريق يشترك فيه كل من الرجال والنساء على مدار الساعة، يحملون معهم الرحمة والعطف، مواساةً لإخوانهم، ويتوجونه بتكريم أبناء شهداء الواجب، ويحرص الرئيس العام شخصيا على الالتقاء بهم والدعاء لهم، وتقديم كل الخدمات لهم ولأسرهم. وفي الجانب العلمي والمعرفي، تطلق المسابقات الرمضانية التي تربط الزوار والمعتمرين، وتربط الذين يتواصلون مع الإعلام بنقل ثقافة القرآن والسنة والتاريخ، وحياة الصحابة والتابعين، وسير رجال هذه البلاد الطاهرة وملوكها، عبر الرسائل وحصد الجوائز معها، لتكون رحلة العمر والزيارة ممتعة روحانية ثقافية علمية، تعود على هؤلاء في الحرمين الشريفين بالفائدة من كل النواحي.

ولا يمكن إحصاء المبادرات التي يقودها المخلصون من أبناء شؤون الحرمين، لكنني وأنا أستعرضها تذكرت مكتبة الحرم المفتوحة التي تحولت إلى رقمنة، وإلى تطبيقات يحمل معها الزائر أجمل الذكريات، وهناك البرنامج العلمي الفكري الذي تحرص عليه هذه البلاد بكل قطاعاتها لمكافحة الفكر المتطرف، إذ خصص برنامج علمي متكامل يشترك فيه عدد من أصحاب السماحة والفضيلة وأعضاء هيئة كبار العلماء، إرشادا وتوجيها وبيانا للمنهج السلفي الوسطي الذي يُطلق من بلاد الحرمين، وفي مقدمتها خطب الحرمين التي يتولاها أئمة فضلاء وعلماء متخصصون في العلم الشرعي، احتسابا للأجر والثواب، وردعا لكل من يتطاول على بلاد الحرمين عبر وسائط التواصل وغيرها، ليقوم منبر الحرم برسالته في الذود عن العقيدة الوسطية والفكر المعتدل، إذ هو منهج هذه البلاد المباركة، حرسها الله.

ولعلي لا أستطيع تجاوز الأحرف المخصصة لهذا المقال، إلا أن المبادرات نحكي عنها ما زالت، وهناك مزيد من عطاءات رجال الحرمين، كلٌّ في تخصصه. وفق الله الجميع لما فيه الخير والسداد، ونفع الله بجهود المخلصين.