تواجه المملكة في السنوات الأخيرة أكبر حرب إعلامية واجهتها في حياتها الطويلة التي امتدت ثلاثة قرون حتى يومنا هذا؛ بل لعلي لا أكون مجازفاً إن قلت: إنها من أكبر الحروب الإعلامية التي واجهتها دول العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وهنا أسرد ما تتيحه مساحة المقال من جبهات الحملات الإعلامية ضد المملكة، والحقيقة: أن هذه الجبهات في حاجة لدراسة علمية تبين بالتفصيل منطلقات كل جبهة ووسائلها وسُبل مواجهتها، ولعل مقالي هذا يقدم الفكرة لأحد باحثي أقسام الإعلام السعودية أو أحد المراكز البحثية السعودية، فالحاجة إليه ماسة في نطاق الثقافة العامة وعلى مستوى متخذ القرار في بلادنا.

فالدولة العميقة المعارضة للرئيس ترمب في الولايات المتحدة بكل ما تملكه من آلة إعلامية تعمل على تشويه السعودية لأمرين: أحدهما النكاية بترمب الذي يحاولون تصوير علاقته بالسعودية على أنها دعم للإرهاب والاستبداد والرجعية، والآخر: استمرار مشروع الولايات المتحدة الذي توقف مع ولاية ترمب والرامي إلى تقسيم السعودية، وأيضا لأن الفكر السلفي الذي تؤمن به السعودية وشعبها هو الفكر الأقوى في العالم الإسلامي في صد مشروع العولمة ونشر القِيَم الأميركية التي تبنتها الولايات المتحدة منذ الثمانينات الميلادية.

وترمب أيضا لا يجد مانعاً من تشويه السعودية وإظهارها كخزانة أموال تأتمر بأمره حين يجد في قول ذلك إرضاء لناخبيه.

والإعلام الروسي يسعى لتشويه السعودية باعتبارها حليفة لأميركا عدوِّه التقليدي، كما أنها كانت الدولة الأكثر تأثيراً في إسقاط الاتحاد السوفيتي عسكرياً واقتصاديا وإيديولوجياً، والتي تم على يديها إفشال المشروع السوفييتي في الوصول إلى المياه الدافئة أوائل القرن الهجري الراهن.

الإعلام الصهيوني يشتغل هو أيضا على تشويه السعودية، لكن آليته في ذلك تختلف كثيراً عمَّن سواه، فهو يتحدث عن السعودية كدولة صديقة ومتفاهمة معه، في حين يتحدث عن تركيا وقطر وإيران بلهجة عدائية، وبذلك يعمل على الرفع من شأن حلفائه الذين ثبتت بالصور والتقارير أنباء علاقاتهم الراسخة معه، وتشوية خصومه الحقيقيين الذين لا يوجد أي تقرير موثق يدل على وجود أي مبادرة تقارب معه.

وإيران بأذرعتها المذهبية العسكرية كحزب الله والحوثي وحزب الدعوة، وأذرعتها السياسية كدولة قطر والأحزاب الشيعية العراقية كلها تشتغل على تشويه السعودية، لأنها الدولة التي وقفت في وجه المد الإيراني السياسي والمد الإيراني المذهبي، بما تملكه من ثِقل سياسي ومن وعي ديني سلفي حال بين الفكر الصفوي وبين افتراس عقول المسلمين، بعكس المناهج الدينية الأخرى في العالم الإسلامي التي أثبتت التجربة سرعة وقوعها في فخ المخادعة الصفوية.

وتركيا تعمل أيضا على الإساءة لسمعة السعودية باعتبار مشروع حزب العدالة يقوم على السعي إلى القيادة الروحية للعالم الإسلامي واستغلال التراث العثماني والاستفادة منه سياسياً واقتصادياً؛ كما أن تركيا مطلوب منها غربياً أن تقدم لأوروبا نموذجاً للإسلام الليبرو المتوافق مع القِيَم الأوروبية السياسية والاجتماعية، والتي يُصبح الإسلام من خلالها مسألة شخصية وليس نظاماً عاما تنطلق منه الدساتير وسائر الأنظمة، وكل ذلك تختلف فيه السعودية مع تركيا، وتسعى الأخيرة لإبراز اختيارها على أنه الأفضل والأكمل، والذي يمكن به إعادة القوة والهيمنة للمسلمين تحت قيادة تركيا، هذا مع تبنيها علاقات طيبة جداً مع الكيان الصهيوني تعمل على إخفائها تحت فرقعات صوتية لا تؤثر في الواقع العملي للعلاقات الوثيقة بينهما.

وجماعة الإخوان المسلمين تشتغل على خط التشويه؛ لأن السعودية ضد وجود بَيْعة في داخل الدولة لغير ولي الأمر، وتمنع أي نشاط حزبي يتوجه نحو تمكين جماعة أو حزب من توجيه سياسة الدولة؛ كما أن هذه الجماعة الأصل فيها كونها ضد الأنظمة الملكية، حيث قامت بالثورة على الحكم الملكي في اليمن عام 1948، وشاركت بقوة في إسقاط الحكم الملكي في مصر عام 1952، كما أنها ترى في السعودية عقبة أمام نشر دعايتها التي كانت تقوم على المطالبة بتطبيق الشريعة، وتغيرت اليوم بتغير الظروف الدولية لتكون الديمقراطية والعدالة دون أي فرق بينها وبين الأحزاب العلمانية، وثبات السعودية على مبدأ دستورية الكتاب والسنة يحقق لها حرجاً فكرياً، حيث لم تعد تستطيع الترويج لنفسها داخل المملكة وخارجها عبر شعارها القديم (القرآن دستورنا والجهاد سبيلنا)؛ وكان اصطفاف الجماعة مع الخميني بعد الثورة الإيرانية، ثم اصطفافها مع صدام حسين بعد غزو الكويت، وعدم تأييدها للسعودية في حربها ضد القاعدة، ثم وقوفها مع الحوثيين في الحرب السادسة، ووقوفها بعد ذلك مع الحوثيين ممثلة بالتجمع اليمني للإصلاح في المبادرة الخليجية، كل ذلك وغيره كان له تأثير كبير في عدم الثقة التي أبدتها السعودية للجماعة في مقابل ما صنعته السعودية لهذه الجماعة من خير تمثل في الوقوف معها في أزماتها مع النظام الناصري في مصر وعبد الكريم قاسم في العراق والأسد في سورية ونظام القذافي عام 1969 في ليبيا.

وقد اتخذت إيران وتركيا وقطر من هذه الجماعة حصان طروادة نظراً لسهولة تعاطف المجتمعات معها، حيث لا يعرف الناس عنهم سوى أنهم يرفعون الشعار الإسلامي، لذلك نجحت هذه الأنظمة في الترويج لنفسها عن طريقهم، وتطور الأمر من مجرد الترويج لتلك الأنظمة إلى استخدامهم أداة لمحاربة السعودية إعلاميا.

كما أن الغرب يتعاطفون مع الإخوان لأنهم وحدهم المستعدون للعمل بطريقة إردوغان في علمنة الإسلام، وقد بدأوا في مصر السير في هذا الاتجاه قبل الانقلاب، وانغمس فيه إخوان تونس انغماسا، ولو تمكن الإخوان في أي بلد لاتخذوا ذات التوجه تحت ذرائع السياسة.

وقد استطاع الإخوان أن يجتذبوا إليهم في العمل الدعائي ضد المملكة جزءًا من الدعاة المنتسبين في العموم للسلفية وهم الذين يوصفون بالسروريين، وهؤلاء منهجهم هو الشك الدائم في الانتماء الإسلامي للدولة رغم كل ما قدمته من عمل وتنظيمات وعلاقات دولية تدعم القضايا الإسلامية؛ وليست مشكلتهم مع الدولة منحصرة فيما يجري اليوم من مظاهر انفتاح؛ بل كانوا يشككون في الدولة حتى في أقوى عهود التزامها بالفقه السلفي، ومع ذلك لا يخفى تناقضهم في تقديم المعاذير لحزب العدالة التركي في توجهاته نحو العلمانية واعتبار ذلك ضرباً من الدهاء السياسي.

يشارك أيضا في العمل الإعلامي مضافاً إلى العمل الإرهابي ضد السعودية، داعش والقاعدة وما تفرع عنهما، فهذه التنظيمات من جهةٍ تستخدمها الجهات المعادية للسعودية في نسبة فكرها إلى الدعوة السلفية التي قامت عليها المملكة لتشويهها دوليا، ومن جهة أخرى تعمل هذه التنظيمات على إشاعة فكر تكفيري داخل المملكة بين الشباب، يؤدي إلى احترازات أمنية يهدفون إلى استثمارها في إشاعة نقمة شعبية وانتقادات دولية.

كذلك العلمانيون في العالم العربي والإسلامي ويسمون بالليبراليين ومعهم اليساريون والقوميون، بما يملكونه من صحافة وقنوات فضائية، وأيضا بإمكاناتهم الشخصية، كلهم يشتغلون على تشويه السعودية باعتبارها دولة كما يزعمون ثيوقراطية رجعية داعمة لنشر التدين، وهي السبب في نشوء الصحوة الدينية التي كانت وراء تراجع المد الماركسي والقومي والليبرالي بعد الستينات الميلادية حتى الوقت الحاضر، وقد كان بقايا اليساريين السعوديين والليبراليين والقوميين يسيرون في خط تشويه السعودية مع نظرائهم في الخارج، وذلك عن طريق تشويه المنهح السلفي فقهاً واعتقاداً ولمزاً للنظام الحاكم أيضا بدرجات متفاوتة قدر ما يساعد عليه فضاء التعبير حينها.

الليبروإسلاميون تيار قديم في العالم الإسلامي لكنه حديث في المملكة، وهو تيار يتنامى بين النخب، معظمهم متشددون سابقون يظهرون الخلاف الفقهي الكبير للمدرسة السلفية السائدة لكن قضية الكثيرين منهم ليست فقهية وحسب بل سياسية في المقام الأول، وإن كان الجانب الفقهي هو الذي يستطيعون إبرازه لتحطيم أنماط التفكير السلفي النصية كمرحلة أولى، ينتقلون بعدها إلى مشروع سياسي يعتمد على أصول متوافقة أو مأخوذة من الفكر الديمقراطي الغربي، وفي فترة السقف العالي للتعبير والتي سادت زمن الملك عبد الله رحمه الله تجرأ عدد منهم على التصريح بذلك.

لن أُنهي هذا السرد دون الحديث عن الطرق الصوفية التي ناصبت الدولة السعودية العداء منذ عهدها الأول، ومعظم فتاوى تكفير السعودية والدعوة السلفية آنذاك صدرت من علماء الصوفية؛ والحملات العسكرية التي شُنَّت على السعودية الأولى كانت بفتاوى من علمائهم؛ واليوم ليست الطرق الصوفية أقل عداءً للمملكة، لكن انضواءها تحت أنظمة حليفة للسعودية يجعلها تقصر نقدها على المنهج السلفي ويَكِلُون نقد الدولة السعودية لإخوانهم من الطرقيين المتعاونين مع مراكز بحثية وسياسية أميركية وغربية تعمل على دعم الصوفية في العالم الإسلامي.

لا أزعم أني بهذا السرد استقصيت الجبهات في حرب السعودية الإعلامية بل هناك عدد لا يساعد المقام على ذكره، وأياً كان، فالجبهات كثيرة ومتنوعة وقوية ولا أشك أنها مؤثرة على الداخل والخارج؛ وبالتالي هي في حاجة من السعودية إلى مواقف إعلامية تفوق بمراحل من حيث القوة والدقة والذكاء والتنوع والصدقية ما هو موجود لدينا الآن.