تعلّمت دروسا بسيطة جدا من الإنشاء، إبان صغري، مع ما كنت أتعلمه في المدرسة من بقية الدروس الأخرى.

نعم، أقول بسيطة بكل ما في كلمة البساطة من معنى، لأنها ما كانت تسمح لي تلك الدروس بإعطاء أفكار مستقلة في الأدب أو السياسة أو الاجتماع، نتيجة الإنشاء، ولا كانت تسمح لي بتكوين فكرة بسيطة نظرية أو عملية أيضا في هذه الشؤون. لذلك، لم أكن أعرف خلالها شيئا يدعى البلاغة العربية، وهذا طبيعي ومعقول.

وفي 1333، عندما بدأت الطفولة تتحلل مني، وتتقوض أطنابها، ليحل مكانها الشباب أو الفتوة أو المراهقة، «أحيل القارئ على اللغة. أخذت أدرس دروس البلاغة في المدرسة، وها أنا منذ تلك السنة إلى الآن ما أزال أبحث عن سر البلاغة العربية وكنهها، وأتلمّسها في كل مكان وبين كل سفر، وفي شقي كل قلم، بغية أن أعثر عليها.

تلمستها في جواهر الأدب فرأيتها تبعد 654321 مرحلة.

تلمستها في مولد البرزنجي فرأيتها تتلكأ متسكعة متعثرة.

تلمستها في البردة والهمزية فرأيتها تمشي على استحياء.

تلمستها في كتب الأشياخ فأجابتني الكتب أن ليس هنا.

تلمستها في المقامات فإذا هي لحوم ناضحة ولكنها من غير مأكول اللحم.

تلمستها في كتب السعد والجرجاني فرأيتها تحشرج على فراش الموت.

تلمستها في شعر المولدين فإذا هي عجوز شمطاء في زي حسناء.

تلمستها في المعلقات فإذا هي منجم يحوي ذهبا في جنادل وصخور.

تلمستها في الجرائد فإذا هي خروق بالية وأديم ممزق.

وأخيرا، تركت البحث، ثم عدت فوجدتها، وجدتها رعدا يقصف من نبرات القرآن، فوقفت خاشعا أمام معبدها.

وجدتها ألقا في مقالات بعض كُتاب سورية فهززت يدي وصافحتها.

وجدتها وردا ذابلا في مقالات بعض كُتاب مصر فهتفت لها مبتسما.

وجدتها في شعر المتنبي ينبوعا يحاول الانفجار فلا يستطيع.

وجدتها في نظرات المنفلوطي عروسا تزف ولكن بلا طبول.

وجدتها في الريحانيات موجة تصعد وتهبط.

وجدتها في كثير من شعر وكتابة مسيحيي لبنان تسلس عن قيادها، ثم وجدتها في مترجمات هيجو وموليير وشكسبير وبايرون، فقلت واها لمجد شعراء العرب!

هناك البلاغة العربية فانشدوها. نعم، هناك بين ثنايا تلك الأوراق النقية الناصعة، على ضفاف هاتيك الأسفار الثمينة المندثرة بروعة العظمة ونضرة الجمال. وخلال تلك الألفاظ الذهبية، وعلى جانبي تلك الأسلاك المنسقة تنسيقا هو أرقى ما وصلت إليه الهندسة الفكرية قديما وحديثا.

هناك البلاغة العربية فانشدوها.

* خواطر مصرحة