من فضل الله على عباده أن جعل لهم مواسم كثيرة من الطاعات، يتقربون فيها إليه سبحانه بفعل العبادات طلبا لرحمته، وسعيا لعفوه، وكسبا لرضاه، وطمعا في مغفرته، ورغبة في الفوز بجناته التي عرضها كعرض السموات والأرض، وهذه والله أغلى أمنيات كل مسلم، يدرك أن الحياة رحلة قصيرة وإن طالت به سنواتها، وما بعد الحياة الدنيا، الحياة الآخرة، وهي دار الخلود.

شهر رمضان الذي حطّت رحاله بيننا يعد مدرسة للمسلم، فداخل فصول هذه المدرسة الإيمانية يتعلم أمورا كثيرة، ويصحح من خلالها مسارات عدة في حياته، وعبر دروسها سيبدأ في تغيير أشياء كثيرة تغييرا إيجابيا، فالمسلم الحق سيقرأ في شهر رمضان ما يجعله يُشبَّه بالعمر، وهو يرصد تحولات مراحل أيام الشهر، حيث يبدأ هلال رمضان هلالا، ثم يستوى بدرا منيرا وقمرا مضيئا، ثم يبدأ هذا البدر الجميل الأخَّاذ وهو في أوج سطوعه، وشدة لمعانه، وروعة جماله، يبدأ في العودة من حيث بدأ هلالا صغيرا ضعيفا، وهكذا هو العمر بالنسبة للإنسان، فالإنسان يبدأ صغيرا ضعيفا، ثم يبلغ أوج قوته وعنفوانه، ثم يعود من حيث ابتدأ ضعيفا، وهذه هي رحلة العمر ومحطاته.

ولذلك فشهر رمضان فرصة لا تعوض للشخص في أن يتأمل فيما مضى من عمره، ويفتح «جردة حساب للسنوات التي مضت، ويقلب في دفاتر أيامه الذاهبة»، كي يعمل على ما تعلو به همة نفسه ليبلغ قوة الإيمان بربه، حينما يجتهد وهو يفتش كم مضى من عمره وكم بقي، من أجل أن يعقد النية والعزم، على أن يجتهد في فعل الطاعات والعبادات، ويحرص على تقويم سلوكه ومعاملاته في حياته، بما يجعله يحقق درجة الاطمئنان فيما يعمل ويقول وهو يخطو مشوار حياته الفانية نحو الحياة الأبدية، رغم ما قد يشعر به أي أحد فينا من شعور قد يخالطه الإحساس بالتقصير مع خالقه، لكن يبقى الإنسان المسلم يحاول الاجتهاد حتى يصل المحطة الأخيرة، فلا يقلق حين تلتف الساق بالساق وهو يساق إلى لقاء ربه وحيدا إلا بما قدم، ولهذا كم هو جميل أن يتعلم كل واحد فينا أن رمضان رغم ما فيه من فسحة للاجتماع بالأهل والأصدقاء، وبما فيه من فسحة للهو البريء والسفر والسهر، ورغم ما فيه من فسحة لممارسة المتعة التي لا تخدش الإيمان، ولا تجرح الصيام؛ إلا أنه «فرصة لا تأتي في العام إلا مرة واحدة» فالحذر من «سراق رمضان» فحين ينتهي رمضان الحالي، سيبدأ سؤال مصحوب بلحن الوداع الحزين «يا ترى هل سنلتقي مرة أخرى برمضان القادم أم يسبق الأجل علينا؟»، فكم من أناس كانوا في رمضان الفائت معنا وبيننا، صغارا وكبارا، كانوا حولنا يجلسون معنا إلى موائد رمضان، كانوا معنا إلى جوارنا في السفر والحضر، كانوا معنا يبادلوننا الأحاديث، ويشاركوننا الأحلام والسهر والضحكات، ويصنعون معنا ولنا الأمنيات، وهم يفتحون أشرعة الآمال العريضة، كنا نسمع حسهم ونتلمس مشاعرهم، ونتلذذ بأحاديثهم، فأين هم اليوم؟ إنهم هناك بعيدون على قربهم.. يقول أحدهم «كم كنت تعرف ممن صام في سلف.. ما بين أهل وجيران وإخوان / أفناهم الموت واستبقاك بعدهمُ حيا..فما أقرب القاصي من الداني».

فرمضان كما نعرف شهر القرآن الكريم، حيث أنزله الله على نبيه المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو شهر الانتصارات، معركة بدر الكبرى، فتح مكة، وفي رمضان حُطمت أصنام الشرك، العزى ومناف وسواع على يد صحابة رسول الله، خالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنهما وغيرهما، وفي رمضان كان آخر عهد العرب بانتصارهم في حرب رمضان المجيدة حينما تم كسر شوكة الصهاينة، وتم تلقينهم مرارة الهزيمة بعد انكسارات العرب، وضياع فلسطين وأجزاء من بلدان عربية لا تزال إلى اليوم محتلة.

ما أريد أن أصل إليه هنا أن رمضان فرصة للانتصار على النفس الأمارة بالسوء، المعبأة بالحسد والحقد والكراهية والطيش، بالانتصار على النفس التي تزين للإنسان الشهوات حتى تنسيه أن العمر سيفنى، وأن هناك حياة أخرى، حياة حساب لا عمل، فيها تنصب الموازين، فما الذي أعده كل واحد منّا من أعمال وأقوال يتأمل خيرا أن يثقل بها ميزان أعماله، ويفوز برضوان ربه.