بتوصيف دقيق يستهل الدكتور عثمان الصيني، والدكتور عصام عبدالله كتابهما «العالم أفقيا.. أمريكا والصين والسعودية»، الصادر عن دار مدارك بالقول في معرض شرحهما لماذا يصدران الكتاب: «العالم ليس مستويا، وإنما يتألف من مجموعة هائلة من المطبات والهضاب والصخور والجبال والسهول الوعرة، أو بالأحرى تضاريس سياسية وبشرية شديدة الصعوبة كثيرة العقبات، تتجلى في تنوع الثقافات والهويات ومستوى العقلانية والأطماع، وتباين الآمال والتطلعات والإحباطات، وبروز أنواع غير مسبوقة من الصراعات».

ويكملان «صحيح أن العولمة تزامنت مع فترة سلام بين القوى الكبرى، ومع ذلك بدأنا اليوم ندرك أن هناك وجها آخر للعملة: إن الترابط ذاته، الذي أوصل العالم معا قد خلق أيضا تحديات وأزمات وصراعات جديدة، مما يعني أن التركيز على الزمن الحاضر فقط في فهم تحولات العولمة، خطأ استراتيجي كبير، ويجب كشط القشرة الخارجية للعملة بوجهيها عبر التفكير في أعماق المستقبل القريب، على الأقل».

وفي معرض طرح الأسئلة العميقة، والبحث عن إجابات شافية، يؤكدان «لقد أصبحت معظم دول المنطقة مهددة بالتفكك من أسفل؛ بالعودة إلى حدودها ما قبل الوطنية، ومن أعلى بالذوبان، عبر الاستسلام لإرادة الشركات والمنظمات العابرة للقوميات، وبين مطرقة الولايات المتحدة وسندان الصين، شئنا أم أبينا. وهو ما جعل كثيرا من الدول في عصر العولمة واقعة بين نارين: إما أن تنزلق إلى دوامة الفوضي بفعل الحروب الأهلية الدموية المدمرة لتعود إلى قرون موغلة في القدم، وإما أن تنضوي مجبرة تحت منظومة الشركات العابرة للقوميات والمتعدية للجنسيات، ( أو )، وهو الخيار الأفضل والأصعب، أن تمتلك إرادتها السياسية في التغيير، وبسرعة محسوبة، عبر استخدام أدوات العولمة وإمكانيات ما بعد الحداثة السياسية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر: كيف يمكن للمملكة العربية السعودية (والاختيار هنا مقصود كونها أكبر قوة إقليمية استراتيجية، مالية ونفطية وثقافية وجغرافية) أن تؤثر في التوازنات الدولية، التي تتشكل الآن، وأن توازن مصالحها، وبالقدر نفسه، مع أكبر دولتين (الولايات المتحدة والصين) محور السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين، رغم التوتر وحالة الصراع بينهما؟

هذا السؤال الكبير شغل المساحة الأكبر من كتابنا، ذلك أن أحد تحولات القوة الرئيسة في القرن الحادي والعشرين يتمثل في إحياء آسيا، ففي العام 1800، كانت آسيا تمثل نصف سكان العالم ونصف الاقتصاد العالمي، وبحلول العام 1900، دفعت الثورة الصناعية في أوروبا وأميركا الشمالية حصة آسيا من الناتج العالمي إلى 20 %. ومن المنتظر بحلول منتصف هذا القرن أن تعود آسيا إلى تمثيل نصف سكان العالم ونصف ناتجه المحلي، وهذا باعتراف معظم الثقات من الباحثين والاستراتيجيين في العالم .

إن مستقبل العلاقة بين أميركا والصين مختلط، ومزيج معقد من التعاون والصراع، وقدر منطقتنا أن تكون في القلب من هذا التعاون والصراع، وقدر السعودية أن تكون في قلب هذه المنطقة.»

ويقول المؤلفان في فصول الكتاب

قوة السعودية الذكية

«لا يوجد ما هو أكثر أهمية في السياسة الدولية اليوم من تناول أبعاد العلاقة بين الولايات المتحدة والصين وتأثيرها على العالم، لا سيما وأن صعود الصين كقوة قارية متجددة مثّل أكبر تحدّ للسياسة الخارجية الأميركية في العقود القادمة.

ويزعم بعض الأميركيين أن صعود الصين من غير الممكن أن يكون سلميا، لذا يتعين على الولايات المتحدة الآن تبني سياسة احتواء الصين، وقد انعكس ذلك على ردود أفعال عدد من المسؤولين الصينيين، الذين يستشعرون ذلك التوجه في الاستراتيجية الأميركية الحالية، لقد غير صعود نجم الرئيس دونالد ترمب معظم الحقائق التي شكلت السياسة الأميركية، على مدى عقود سابقة، كما غيّر كيفية تفكير العالم حول الولايات المتحدة بالمثل، في ظل هذه الحالة الجديدة من عدم اليقين الواسع، أصبحت هناك حاجة ملحة إلى مقاربات استراتيجية يجب القيام بها، تأخذ في الحسبان الظروف العالمية المتغيرة، والجغرافيا السياسية الإقليمية، والتحديات الداخلية في كل من الولايات المتحدة والصين.

المعضلة التي تواجه العالم اليوم هي صعوبة تغيير مقاربة كل من الولايات المتحدة والصين لبعضهم البعض، من قبل القوى الأصغر أو القوى الخارجية الأخرى، ومع ذلك فإن هذه المقاربة ليست مستحيلة!

في معظم المشكلات الإقليمية والدولية كان الطرف الثالث (مصدر الثقة من المتصارعين) يرعى عملية إنهاء التوتر والصراع، حدث ذلك في السلام بين مصر وإسرائيل في كامب ديفيد عام 1979، وصولا للأزمة النووية بين كوريا الشمالية وأميركا هذا العام، لكن ظلت المشكلة بين الدول الكبرى تبحث عن: من الذي يستطيع أن ينهي التوتر والصراع من الدول الكبرى.

(هنا بالتحديد يكمن دور المملكة العربية السعودية في خلق مساحات مشتركة بين الولايات المتحدة والصين، تحقيقا لرؤية كيسنجر التي طرحها على الرئيس ترمب حسب كاتب سيرته).

( السعودية بما لها من قيمة وقامة وهي تتوسط العالم، وتمتلك مصادر الطاقة وخطوط التجارة العالمية برا وبحرا وجوا، وهي على علاقة طيبة بالدولتين الكبيرتين، هي المؤهلة للعب هذا الدور في السر والعلن).

وحسب هنري كيسنجر مهندس الانفتاح على الصين «فإن قادة القطبين المتنافسين في القرن الحادي والعشرين، الولايات المتحدة والصين، تعهدوا بتجنب تكرار مأساة أوروبا من خلال نوع جديد من العلاقات بين القوى العظمى».

يدرك كلا البلدين أن الوقت قد حان للتعاون وتشكيل المستقبل، فقط من خلال إظهار ضبط النفس الاستراتيجي والإرادة السياسية لحل القضايا وإنجاز الأمور، يمكنهم مواجهة تحدياتهم المشتركة معا بنجاح» .

على المدى البعيد، تحتاج الولايات المتحدة والصين إلى حوار أعمق ورؤية مشتركة للنظام الدولي، لكي لا تنجذب البلدان الفردية نحو تشكيل مجموعات متنافسة فيما بينها.

لقد حاولنا في كتابنا الجمع بين تقييم التطور التاريخي والوضع المعاصر والفرص المحتملة للعلاقات الأميركية الصينية، واجتهدنا أن تكون الدراسة متوازنة، وموردا أساسيا لجميع الأطراف المعنية بأكبر شراكة ثنائية في العالم.

لقد ثبت من خلال دراستنا أنه لا تزال هناك خلافات قوية وشكوك متبادلة بين الولايات المتحدة والصين، يتم تجاوزها جزئيا فقط من خلال البراجماتية المتبادلة، التي تتغير مع الظروف، لذا ركزنا على: «حكمة» و»مصالح» العوامل المحلية والدولية، التي قد تحدد تطور العلاقة بين واشنطن وبكين مستقبلا (لاسيما الدور الذي يمكن أن تلعبه المملكة العربية السعودية)، باعتبارها قوة إقليمية مؤثرة تجمعها علاقات متوازنة تقوم على الاحترام المتبادل من القوتين العُظْمَتين، فضلا عن كونها الشريان الرئيسي للعولمة في القرن الحادي والعشرين».

ميلاد الجغرافيا الجديد

اليوم ونحن في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أصبحت الجغرافيا حية وفعالة في كل مناحي حياتنا وعلى كافة الأصعدة، ولم تنته أو تزول، وإن كان هناك من ملمح بارز للعلاقات الدولية في عصر العولمة، فهو أن «الجغرافيا الجديدة صارت حاضرة حضورا قويا، أكثر مما ينبغي وليس العكس».

إن العادات والطموحات ومشاعر الود، التي انعقدت أواصرها خلال التاريخ السابق لا تكف أبدا عن الوجود.

الهوية والحدود

من مفارقات العولمة منذ أن برزت إلى السطح كمرحلة تاريخية، أنها تزامنت مع اندلاع الحروب العرقية والدينية والإثنية في أكثر من مكان في العالم، واستنفار «الهويات» معلنة عن نفسها بحدة ورعونة أحيانا، ففي ظل اتجاه الفرد نحو العالمية، يتم في اللحظة نفسها انجراف شديد نحو تحديد الهوية والشخصية، والتغني بأمجاد الخصوصية والأصول والتاريخ. لقد أصبحت «سياسات الهوية» تتصاعد اليوم لتستعرض عضلاتها حول العالم وتدق مسمارا كبيرا في نعش القيم العالمية، باسم الفرادة والتنوع الثقافي، وأقرب دليل على ذلك ما حدث خلال عقدين (1998 – 2018) من فوز فرنسا بكأس العالم لكرة القدم، فقد أثار فوز المنتخب الفرنسي بكأس العالم للمرة الثانية عام 2018، عواصف لم تهدأ بعد، حول الهويات والتنوع الثقافي مجددا، وربما بصورة أكثر حدة من تداعيات فوز فرنسا بنفس بالكأس نفسه عام 1998.

قبل عقدين من الزمان كانت بعض ردود أفعال اليمين الفرنسي «سلبية»، لا سيما مع صعود نجم اللاعب الفرنسي الجزائري الأصل «زين الدين زيدان»، ضمن صفوف المنتخب الوطني الفرنسي، أما في عام 2018 فقد انقلبت الآية إذ قادت الميديا وشبكات التواصل الاجتماعي ورئيس فنزويلا «نيكولاس مادورو» تحديدا، حملة ضد فرنسا العلمانية الديموقراطية لحساب التنوع الثقافي تحت عنوان لافت: «إفريقيا هي من فازت بكأس العالم»، وبالفعل تضمن منتخب الديوك (مسمى منتخب فرنسا لكرة القدم) 13 لاعبا تعود جذورهم للقارة الإفريقية، ما دفع الرئيس الفنزويلي «مادورو» إلى التأكيد على أن هذا الانتصار الأخير يحسب لأبناء المستعمرات السابقة. لكن يبدو أن هذه التصريحات التي تدافع في ظاهرها عن التنوع الثقافي ومطالبة فرنسا بمعاملة أبناء المهاجرين كـ»فرنسيين أولا»، كانت تخفي في أعماقها موجة أكبر بدأت تنتشر في قارات العالم من «العنصرية وكراهية الآخر».

العولمة المسورة

ليس من شك أن هناك تباعدا شديدا بين الشعارات البراقة، التي رافقت ميلاد العولمة منذ نهاية الثمانينيات من القرن العشرين: عالم واحد وقرية كونية صغيرة، وبين ما نشاهده اليوم من أسوار عديدة للعولمة نكتشفها يوما بعد يوم، و»لعل أصدق مظهر من مظاهر العولمة هو أن الاضطرابات، والصراعات، والحروب باتت لا تعرف الحدود، في الوقت الذي بقي فيه تدفق اللاجئين من المرحلة الأولى من «الحرب على الإرهاب» في أفغانستان والعراق محصورا إلى حد كبير على جواره المباشر، فإن الأزمة في سورية قد خلقت أعدادا كبيرة من اللاجئين الذين يبحثون عن مأوى في أماكن أبعد، إنهم يطرقون أبواب البلدان التي تم حمايتها من الجوع والفوضى وعدم الاستقرار، إن مقاومة العالم المتقدم لقبول هذه الموجة من البشر الفارين من الاضطهاد والإرهاب، باستثناءات قليلة مثل ألمانيا، تكشف عن (مخاوف) ورغبة الدول في حماية أنفسها من الفوضى المنتشرة في الخارج.

كان لأزمة اللاجئين التي لم يسبق لها مثيل، والتي تواجه أوروبا، مقترنة بالهجمات في باريس، وسقوط طائرة ركاب روسية، والهجمات بالقنابل في بيروت وأنقرة، تأثير عميق على نظرة الناس في جميع أنحاء العالم.

ونتيجة لذلك، من الطبيعي أن تشهد المواقف تجاه العولمة تحولا هاما أيضا، هو في بعض النواحي صراع النظام مع الفوضى، إن سكان العالم «المنظم» يميلون إلى بناء أسوار أقوى حول حدودهم. هذا التحول نحو الحماية الوطنية ضد التدفقات العالمية للبشر يوازي المواقف المتغيرة نحو العولمة في مجال التجارة والاستثمار، لقد انتقلنا إلى عصر العولمة (المدارة)، التي تتم إدارتها، أو «العولمة المسورة»، حيث تختار الدول اليوم: من تتاجر بحرية معه، ومن تقيد تجارتها معه»، وهي مرحلة جديدة من تحولات العولمة (ضد العولمة) ذاتها أو العولمة الضد.

انفلات الولاءات والدويلات

إذا كانت دول العالم قد ازداد عددها (بالانفصال أو التقسيم) منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق عام 1989 والكتلة الشرقية، فإن الجديد هو أنه أصبح لدينا بعض المناطق المحظوظة دون غيرها من مناطق الدولة الواحدة، وبعض الولايات والمدن الكبرى التي أصبحت أكثر قوة وأهمية استراتيجية (جيو اقتصادية) من بلدانها، مثل ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة، والعاصمة التجارية نيويورك أو وادي السيلكون، ومدن أخرى كبرى في العالم مثل «شنجهاي» وساو باولو وهونج كونج وغيرها.

فقد أدت العولمة إلى «مسامية الحدود»، مما أضعف سلطة الدولة ومؤسساتها: «فإذا كانت الدولة في شكلها الحديث قد ازدهرت في صورة الدولة الحامية، وفرضت نفسها بوصفها إطارا للتضامن المؤسسي بين: الأغنياء والفقراء، الأصحاء والمرضى، الفاعلين وغير الفاعلين.. إلخ، فإن التدويل واندفاعاته الأساسية بفعل العولمة، وضع الدولة أمام معضلة شديدة التعقيد، إذ تطلبت حتمية المنافسة التحلل من أعباء هذا التضامن، ومحاباة بعض الفئات والمناطق المحظوظة من البلاد التي تتوافق مع آليات المنافسة، هكذا أثرت «العولمة» على مشروعية الدولة من أعلى ومن أسفل، فماذا يعني الاقتراع الشعبي «الانتخاب» اليوم في الدول الديموقراطية، بعد أن سقطت الدولة في حمم القيود والقواعد الدولية».

وأسفر ذلك عن «انفلات حدود الولاءات» مع تنامي وانتشار الشركات المتعدية للجنسيات والمناطق الجغرافية – الاقتصادية المحظوظة، فقد أصبح الانتماء المهني والوظيفي (للعاملين من مختلف الجنسيات والثقافات) والولاء لشعار الشركة وعلامتها التجارية وقواعد وأدبيات العمل في مقدمة أي انتماء آخر «والشركات المتعدية للقوميات هي أفضل من يعبر عن العولمة الاقتصادية، إذ أنها إنها لا ترتبط بالبلد الأم أو المنشأ، بل نراها تنقل مقرها الأساسي ببساطة للخارج، حيث الضرائب أقل والخدمات أفضل، ومن ثم فهي شركات ذات طبيعة طفيلية بالنسبة للدولة القومية، ولا تنتمي الواحدة منها للأخري للأخرى أيديولوجيا».

ولتحقيق هذا الهدف كانت تنشر هذه الشركات المتعدية للقوميات أفكاراً تساعد على تحطيم «موضوع الولاء» القديم وهو الوطن والأمة، وإحلال «ولاءات جديدة» محله، وأفكار من نوع «نهاية التاريخ ونهاية الأيديولوجيا والقرية الكونية الواحدة... إلى آخر ما يصطلح على استخدامه مع جميع الأمم».

الكتاب

العالم أفقيا أميركا والصين والسعودية

المؤلفان

د. عثمان الصيني

د. عصام عبدالله

الناشر

دار مدارك

الصفحات

223