يرى الدكتور عثمان الصيني والدكتور عصام عبدالله أن سلوكاً متبصراً بعيد المدى بشكل غير اعتيادي للسعودية وتخليها عن المكاسب قريبة المدى كانا أساس قيادة السعودية لمنظمة أوبك والسوق العالمية للنفط، وذلك في كتابهما «العالم أفقيا.. أمريكا والصين والسعودية» الصادر عن دار مدارك، ويتحدثان بإسهاب عن القوة الجغرافية الاقتصادية للسعودية، ويقولان:

عامل بروز

كان العامل الرئيسي للبروز الجغرافي-الاقتصادي للسعودية احتضانها لمنظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، التي قذفت بالدولة ذات الحجم الاقتصادي الصغير إلى المسرح العالمي. وقد استخدمت السعودية منظمة (أوبك) كمنصة لزيادة هيبتها فيما يتجاوز المنطقة العربية، وترجمت قوتها في السوق إلى نفوذ اقتصادي عالمي أوسع.

اتخذت المملكة القرار الاستراتيجي باستغلال احتياطياتها بقوة وتوسيع قدراتها الإنتاجية والتصديرية. منذ عام 1980، جاء حوالي برميل من بين كل خمس براميل نفط في السوق العالمي من السعودية. قاعدة الاحتياطيات الضخمة لم توفر للمملكة نفوذاً في السوق فقط، لكنها سمحت للرياض أيضاً بالتأثير على قرارات منظمة أوبك وضبط المنظمة المعروفة بالانقسام، وبالتالي فرض سلطة سياسية (بما في ذلك تحالف ضمني طويل مع الولايات المتحدة)، لكن الموقع الاقتصادي للسعودية ينطوي على أساليب سياسية بالضرورة، على الرغم من أنها لم تستخدم النفط صراحة كأداة سياسية منذ أزمة 1973، لكن أصبحت السعودية مهندسة استراتيجية حصة السوق التي كان لها أثر مادي على الثروات الاقتصادية العالمية، وثبتت نموذج التنمية القائمة على الهيدروكربون، ونقلت سوق النفط إلى ما هو عليه اليوم.

ماذا بعد التأثير السعودي؟

الجغرافيا الاقتصادية للطاقة، وخاصة للنفط، لا يمكن اعتبارها مجرد سهم في جعبة الدولة. كما هو واضح في حالة السعودية، فهي حكاية كيفية قيام اللاعبين، من خلال الخيارات التي يتخذونها بخصوص هبة الموارد، بصياغة المؤسسات والأسواق التي يتم المتاجرة بهذه الموارد فيها، والتي تمنح بدورها النفوذ والسلطة للاعبين. موقع السعودية الفريد في أسواق النفط العالمية لا يزال أداة البلد الجغرافية-الاقتصادية الأساسية (الأداة الأخرى هي ثروتها المالية المتراكمة الكبيرة). اليوم، تشكل أسواق النفط العالمية سريعة التغيير تحديات مهمة لقدرة السعودية على استخدام مواردها لحماية قوة السوق العالمية. ومع ذلك، حتى وإن كان نجم الطاقة السعودية سيأفل، فليس هناك لاعب آخر -سواء كان قطاع النفط الصخري الأميركي أو غيره- قادر حالياً على أن يأخذ مكانها. وفي الوقت الذي تشكل فيه الجغرافيا-الاقتصادية للنفط دراسة للقوة، فإنها تشمل أيضاً دراسة حوكمة السوق وكيفية تحقيق استقرار دوائر السلع المتقلبة بشكل كبير. ومع استمرار صعود الصين والقيام بدور نشط في إعادة تشكيل النظام العالمي، تسعى الإجراءات والآليات والهياكل الموازية إلى تحدي الهيمنة الأميركية والأوروبية على المؤسسات الدولية ومجالات السياسة المهمة، وربما يؤدي هذا المسعى في النهاية إلى إيجاد توازن نسبي في معايير القوة الجديدة، لذا فإن التعاون وليس المواجهة أو الانحياز لطرف ضد طرف آخر، قد يكون مفيداً للنظام الدولي الذي يتشكل الآن وللصالح العام. إن المشاركة الحذرة في بعض الآليات التي تدعمها كل من الولايات المتحدة والصين، وتلبي المصالح الملحة في بعض المجالات والمناطق المستهدفة مثل التعاون في مجالات التنمية ومكافحة الإرهاب، فضلاً عن تقاسم الأدوار الإقليمية والدولية وتوزيعها، أمر حيوي ملح، بدلاً من الانخراط في نقاش سوفسطائي نظري حول هل النظام الدولي الجديد: متعدد الأقطاب أم ثنائي القطبية؟ وهل نعيش في مرحلة حرب باردة جديدة أم في فترة ما بين الحربين العالميتين؟.

أربعة سيناريوهات

نطرح أربعة سيناريوهات رئيسية تمثل وجهة نظر باحث محايد هو «مارك ليونارد»، وهي أشبه بفاتحة شهية للتفكير الهادئ في الدروب المتشعبة التي ينبغي علينا أن نسلكها.

يقول ليونارد «أعتقد أن الفوضى العالمية الجديدة سيكون لها أربع خصائص رئيسية وهي أولاً، «حروب الترابط» والتي ستكون أكثر شيوعاً فالروابط التي تجمع البلدان بعضها ببعض لن تقطع ولكنها لن تخلق الشروط اللازمة لتعددية أطراف حقيقية وعوضاً عن ذلك ستقوم القوى الكبرى بتسليح الروابط الخاصة بها مما يؤدي إلى زيادة الحروب التجارية والهجمات السيبرانية وأنظمة العقوبات والتدخل بالانتخابات. ثانياً، عدم الإنحياز سيصبح السياسة الخارجية المفضلة؛ فالعالم الجديد ثنائي القطب سيسمح بالتقارب بشكل أكبر بكثير، فعوضاً عن التعهد بالولاء للصين أو الولايات المتحدة الأميركية فإن معظم البلدان ستبقي خياراتها مفتوحة بحيث تعمل مع الصينيين فيما يتعلق ببعض القضايا ومع الأميركان فيما يتعلق بقضايا أخرى. ثالثاً، سيستمر الرجال الأقوياء بالحكم، وبينما تستعر المنافسة الجيوسياسية سيلجأ الناخبون للقادة الأشداء والذين يثقون بهم من أجل الدفاع عن المصالح الوطنية الضيقة ولكن هذا التحول إلى مركزية صنع القرار سيؤدي إلى سياسات غير متجانسة وراديكالية بالإضافة إلى غش دائم. أخيراً، ستصبح السياسة الخارجية موجهة محلياً بشكل أكبر وعوضاً عن محاولة التأثير على البلدان الأخرى أو القيادة على المسرح العالمي، سيركز القادة السياسيون على تعزيز قاعدتهم المحلية.

أساطير سياسية ونبوءة فلسفية

في كتاب جوزيف ناي «مستقبل القوة» أحد تحولات القوة الرئيسية في القرن الحادي والعشرين يتمثل في إحياء آسيا. ففي العام 1800 كانت آسيا تمثل نصف سكان العالم ونصف الاقتصاد العالمي. وبحلول العام 1900، دفعت الثورة الصناعية في أوروبا وأميركا الشمالية حصة آسيا من الناتج العالمي إلى 20 %. ومن المنتظر بحلول منتصف هذا القرن أن تعود آسيا إلى تمثيل نصف سكان العالم ونصف ناتجه المحلي. والواقع أنه تطور طبيعي ومحمود، فهو يمكن مئات الملايين من البشر من الإفلات من براثن الفقر. ولكنه في الوقت نفسه كان سبباً في نشوء مخاوف من أن تتحول الصين إلى تهديد للولايات المتحدة.

«ناي» طور أحد أفكار «كيسنجر» المحورية في فهم طبيعة العلاقات (الخاصة جداً) بين الولايات المتحدة والصين، وحسب كيسنجر مستشار الأمن القومي ووزير خارجية أميركا الأشهر في مرحلة الحرب الباردة ومهندس الانفتاح على الصين فإن «المقارنات التاريخية في فهم طبيعة العلاقات بين أميركا والصين، غير دقيقة بطبيعتها، رغم أهميتها، وحتى التشبيه الأكثر دقة في تجارب سياسية سابقة لا يلزم الجيل الحالي بتكرار أخطاء أسلافه، لذا «يجب توخي الحذر في فهم العلاقات الدولية ومسارها المستقبلي حتى لا يقع الجانبان في نبوءات كارثية تتحقق ذاتياً». يجادل «ناي» حول مسألة مهمة وهي: إذا ما تعاملت الولايات المتحدة مع الصين باعتبارها عدواً اليوم، فإن هذا من شأنه أن يضمن وقوع العداوة في المستقبل. ليست هناك أي ضرورة تدعو إلى اندلاع حرب بين الولايات المتحدة والصين أثناء هذا القرن. لكن هذا لا يلغي عامل «الخوف» المتبادل والذي يسمم العلاقات الأمريكية – الصينية، وسنحاول الكشف عن المياه الجوفية المحركة لعامل الخوف في الغرب من وجهة نظر الفلسفة السياسية الغربية تحديداً.

النبوءة المحققة لذاتها

أكبر خطر يعرضه التشاؤم الحالي في مستقبل العلاقة بين الولايات المتحدة والصين هو أن يصبح نبوءة محققة لذاتها، على نحو يؤدي إلى تغليب نوازع الخوف على بناء الثقة المتبادلة والانعزال على حساب الانفتاح وتدمير النظام العالمي القائم بدلاً من تجديده.

تشير نظرية «النبوءة المحققة لذاتها»، التي وضعها في الأصل عالم الاجتماع (روبرت- ك - ميرتون) عام 1949، إلى الطريقة التي يتأثر بها السلوك الاجتماعي بالتوقعات التي تكون لدى الأفراد والجماعات بعضهم إزاء بعض.

ذلك أن آراءنا المسبقة (كأفراد وجماعات ودول) مسؤولة بنسبة كبيرة عن تشكيل مواقف الآخرين تجاهنا وكيفية تعاملهم معنا. فعلى سبيل المثال، ترى دولة (أ) أن الدولة (ب) تضمر نوايا عدوانية تجاهها، وبناء على ذلك فإنها تحرك قواتها إلى الحدود إظهاراً لقوتها، وترد الدولة (ب) بإجراء مقابل حاسم، فتشعر الدولة (أ) بأن موقفها الأول كان مبرراً، وهذا المثال البسيط يبين مبدأ النظرية، وتستطيع أن تسحبه على ما يجري الآن بين الولايات المتحدة والصين في قرن المحيطات، وتواجد نصف القوى العسكرية للعالم تقريباً، في المحيط الهادئ والهندي وبحر الصين الجنوبي والشرقي. طبقت النبوءة المحققة لذاتها على نطاق واسع على قضايا التعليم والاقتصاد والبورصات والتسويق، ولاقت رواجاً لدى علماء النفس والاجتماع والسياسة، ولكن كان لها شأو خاص في فلسفة التاريخ.

ظهرت اللبنات الأولى لهذه النظرية في الفلسفة الألمانية عام 1919م بصدور كتاب أوزفالت شبنجلر «أفول الغرب»، وربما، لم يحدث من قبل على الإطلاق أن صادف كتاب فلسفي مثل هذا النجاح المنقطع النظير، إذ ترجم إلى كل لغات العالم تقريباً، وقرئ على كل لسان. وظل الانبهار بهذا الكتاب أو تلك: النبوءة المحققة لذاتها، في فترة ما بين الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين، حتى ظهور كتاب الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر (1874 – 1945) والمعنون «الدولة والأسطورة» والذي نبه الأذهان لأهمية التمييز الدقيق بين السياسة كعلم والأساطير السياسية، وضرورة التفرقة بين فلسفة التاريخ وتنبؤات العرافين. فقد حلل كاسيرر في أحد فصول كتابه، ظاهرة أوزفالت شبنجلر وكتاب (أفول الغرب) في عشرينيات القرن العشرين، تحليلاً علمياً ونفسياً، تاريخياً واستشرافياً، وهو يعزو نجاح كتاب شبنجلر أساساً، إلى عنوانه وليس إلى مضمونه، إذ كان كالشرارة الكهربائية التي ألهبت خيال القراء. نشر الكتاب في يوليو عام 1918 عند نهاية الحرب العالمية الأولى، وعبر بطريقة لاذعة ونفاذة عن القلق العام وقتئذ. فهو لم يكن كتاباً علمياً، على حد تعبير كاسيرر لأن شبنجلر كان يحتقر كل مناهج العلم، ويتحداها علناً، وهو القائل «الطبيعة تبحث علمياً، أما التاريخ فينظر إليه نظره شاعرية». غير أن أهمية هذا الكتاب، حتى اليوم وغداً، تكمن في كونه يمثل نموذجاً للأساطير السياسية الحديثة «التي تتجه الآن اتجاهاً مختلفاً للغاية. فهي لا تبدأ بالمطالبة بتحريم أفعال معينة. إنها تهدف إلى تغيير الناس حتى تستطيع تنظيم أفعالهم والتحكم فيها. إن أثر الأساطير السياسية شبيه بالحية التي تحاول شل فريستها قبل أن تفترسها والناس يقعون في أسرها بغير أن يظهروا أية مقاومة جادة لها. فهم يتعرضون للهزيمة والخضوع قبل أن يدركوا بالفعل ما حدث». ويضيف: «إن ساستنا المحدثين يعرفون كل المعرفة أن تحريك الجموع الكبيرة اعتماداً على قوة الخيال أسهل بكثير من تحريكها بواسطة القوى المادية الصرفة». لقد خلط شبنجلر، ومن لف لفه، حسب كاسيرر، بين الرؤى النبوية والوقائع وصنع منها «فلسفة للتاريخ» فهو يزهو بأنه قد اكتشف طريقة جديدة يمكن الاعتماد عليها في التنبؤ بالأحداث التاريخية الحضارية، على النحو نفسه الذي يتبعه عالم الفلك في التنبؤ بخسوف الشمس أو القمر، مع الاعتماد على دقة مماثلة. وعلى حد تعبيره «في هذا الكتاب أول محاولة ترمي إلى تحديد الاتجاه الذي سيتجه إليه التاريخ، وتتبع المراحل التي لم يكشف عنها النقاب بعد في مصير أية حضارة، على الأخص في الحضارة الأوروبية الأميركية، أي في الحضارة الوحيدة في عصرنا وفي كوكبنا التي بلغت بالفعل حد الكمال». لذلك يؤكد كاسيرر على أن «كتاب شبنجلر في الواقع من أعمال التنجيم في التاريخ. أو ربما كان عمل أحد العرافين، كما يظهر من عرض رؤياه الكئيبة، التي لا ترى الأشياء إلا في صورة نور أو ظلام». «إن أية فلسفة للتاريخ تعتمد على نبؤات كئيبة بتدهور حضارتنا ودمارها المحتم.. تكون قد أعلنت يأسها من أية مشاركة إيجابية في إنشاء الحضارة الإنسانية وإعادة إنشائها. إن مثل هذه الفلسفة قد نبذت مثلها النظرية والأخلاقية، ومن ثم قد يصبح بالإمكان استخدامها أداة طيعة في يد الزعماء السياسيين». لقد اعتقد شبنجلر أن نهوض الحضارة، وتدهورها وأفولها، لا يعتمد على ما يدعى بقوانين الطبيعة، ولكنه يخضع لقوة أعظم هي قوة «المصير» أو «القدر».

تسيير التاريخ

طبقاً لنظرية العناية الإلهية فإن المصير هو الذي يسير التاريخ وليست العلية أو السببية بالمعنى العلمي الفلسفي، وهو يقابل «حتمية» الصراع بين الحضارات عند صاموئيل هنتنجتون، وكل المنظرين الذين يريدون (تأبيد) الصراع والحروب في العالم وكأنها قدرنا الأبدي.

وأقدم هنتنجتون، الخبير السابق فى إدارة «ليندون جونسون» لمحاربة التمرد في فيتنام، ومن ثم مدير مؤسسة الدراسات الاستراتيجية في هارفارد، على نشر نظريته سالفة الذكر، رداً على المنظر المنافس في وزارة الخارجية الأميركية، الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما صاحب أطروحة «نهاية التاريخ».

وبالنسبة إلى هنتنجتون، فقد وضعت هزيمة الاتحاد السوفييتي حداً لجميع الخلافات الأيديولوجية لكنها لم تنه التاريخ، كما يردد فوكوياما. فالثقافة وليست السياسة أو الاقتصاد، هي التي سوف تحكم العالم. والعالم ليس واحداً، الحضارات توحد العالم وتقسمه.. الدم والإيمان، هذا ما يؤمن به الناس ويقاتلون ويموتون من أجله».

والنزاعات بين الحضارات هي المرحلة الأخيرة من النزاعات في العالم الحديث. ففي العالم الغربي كانت النزاعات، بعد معاهدة «ويستفاليا» عام 1648، قائمة بين الأمراء والملوك والأباطرة. وبعد الثورة الفرنسية عام 1789، وقعت النزاعات بين الأمم. ونشبت في القرن العشرين بين الأيديولوجيات (الشيوعية، والاشتراكية القومية، والديمقراطيات الليبرالية). وكانت الحربان العالميتان (1914 – 1945) حروباً أهلية غربية، وكذلك الحرب الباردة التي انتهت عام 1989. وحلت اليوم المواجهات بين الحضارات.

غير أن أخطر ما تطرحه أطروحة هنتنجتون هو: إذا كان السؤال المطروح في النزاعات الأيديولوجية «مع أي جانب تقف؟»، ومن ثم كان بوسع الناس اختيار معسكرهم وتعديله، فإنه في النزاعات بين الحضارات يكون السؤال «من أنت؟ «، وعندئذ لا يكون التغيير ممكناً! من هنا رأى البعض أن أطروحة هنتنجتون لم تكن تشخيصاً لواقع بقدر ما كانت تحريضاً لتقزيم الحضارات الأخرى غير الحضارة الغربية – الأميركية.

وهذه النظرية الغربية (العنصرية جداً) كغيرها من النظريات الفاشية والنازية، ترفض الآخر وتدعو إلى محاربته، ومن ثم تطلق التعصب والعنف من عقاله وتنسف التسامح من أساسه.

فوفقاً لآراء هنتنجتون فإن المحور المركزي للسياسة العالمية في المستقبل سيكون على الأرجح المواجهة والصراع بين العالم الغربي من جهة وبقية العالم (الصين بوجه خاص) من جهة أخرى، وموقف ذلك العالم إزاء قوة الغرب وقيمه.

ولعل سر ذيوع وانتشار أفكار هنتنجتون عن «صدام الحضارات» منذ عام 1993، هو أن جميع أطراف الصدام أو الصراع، كانت - وما تزال - راغبة في تصديق هذه النبوءة التي حققت نفسها بنفسها! مثل ظاهرة أوزفالت شبنجلر وكتابه (أفول الغرب) في عشرينيات القرن العشرين، حيث ما تزال هناك «قناعة راسخة» لدى كثيرين بتحقيق هاتين النبوءتين المتشائمتين إلى اليوم!.

على العكس تماماً من موقف هنتنجتون تجاه الصين، يحترم المنظرون الصينيون آراء خصمهم الغربي، ويرون أن القضايا التي أثارها هنتنجتون في كتابه (صدام الحضارات) ما زالت شاحذة للفكر، وأهمها أن التكامل بين الحضارات المختلفة في عصر العولمة لا يزال بعيد التحقيق.

من هنا عد البعض أطروحة هنتنجتون الامتداد الطبيعي للمركزية الغربية، حيث يعتبر الغرب ثقافته هي النموذج المثالي للمعقولية، من هنا ينشأ الصراع سواء في عصر الحداثة أو ما بعدها، لأن هناك علاقة بين «الانتصار الثقافي» أو بالأحرى «التعالي الثقافي» الذي يرفض التواصل والحوار والتفاعل وبين «التعصب والانغلاق الذاتي، وإقالة الآخر أو إلغائه».

تعالٍ ثقافي

إن فكرة «الانتصار الثقافي» أو «التعالي الثقافي» الغربي ارتبط ارتباطاً عضوياً بالقلق على مصير الحضارة المتقدمة طيلة القرن العشرين، وهو ما يتبدى من أوزفالت شبنجلر في كتابه «أفول الغرب» عام 1918 وحتى صامويل هنتنجتون في مقاله الشهير عام 1993، وربما يتمثل هذا القلق ويتجسد في نزعة التشاؤم و»الخوف» التي حذر منها جوزيف ناي ورأى أن ذلك قد يتحول إلى (نبوءة هلاك).

إن المركزية الغربية، لا تتوافق مع العولمة في الألفية الثالثة، أو ما بعد الحداثة السياسية، بقدر ما تنتمي (بالكاد) إلى أوائل القرن العشرين!

وقد لخص الصحفي الأميركي المخضرم توماس فريدما حالة القلق الأميركي هذه في كتابه «العالم مستو.. موجز تاريخ القرن الحادي والعشرين»، يقول حسام الدين حضور في مقدمة ترجمته لكتاب فريدمان «الأميركيون قلقون، هنتنجتون قلق على الهوية الأميركية بسبب العولمة، والكونجرس قلق على أمن أميركا بسبب الإرهاب، والرئيس السابق بل كلينتون قلق على قدرة الإدارات الأميركية على حل مشكلات المواطن الأميركي، وتوماس فريدمان قلق على دور أميركا ومستقبلها بسبب العولمة أيضاً التي تسوي العالم، فلا يبق فيه كبير إلا بقدر ما يملك من معرفة تسهم في الإنتاج وتقديم الخدمات. فأميركا تخرج إلى العالم خشية أن تفقد دورها فيه، والعالم (خاصة الصين) يدخل في أميركا لأن لديه ما يقدمه لها».

الكتاب

العالم أفقيا

أمريكا والصين والسعودية

المؤلفان

د. عثمان الصيني

د. عصام عبدالله

الناشر

دار مدارك

الصفحات

223