مع توالي الأزمان، وتدرّج الإنسان في سلم الحضارة، بدأ الإنسان يتعلم الكتابة ويسجل ما يسمعه ويراه وما يحتفظ به في ذاكرته، على الحوائط والجدران والعظام والجلود والألواح. فبدأت الإنسانية عهدا جديدا يفصلها عن عصر ما قبل التاريخ، يسمى عصر التاريخ.

فأصبح حفظ الوقائع التاريخية ممارسة إنسانية تتبلور مع الارتقاء في سلم الحضارة الإنسانية.

كان التدوين التاريخي البدائي مجرد أنباء يلفها الغموض، ولا تستند إلى أساس سليم، فلم يرتق التاريخ بعد لأن يصبح علما منهجيا، لأن مهمة التثبت من أحداث وقعت في الماضي مهمة شاقة وعسيرة، وهو عمل يبذل من أجله المؤرخون جهودا جبارة، حتى وضعوا له مناهج علمية للبحث والتحقيق، للوصول إلى أقرب صورة حقيقية ممكنة للتاريخ الذي لم نعشه.

وكما يقول عبدالرحمن بدري في كتابه مناهج البحث العلمي: «يجب أن نلاحظ أن مهمة المؤرخ كأشق ما تكون المهمة، وذلك لأن الوثائق التي لديه ليست هي كالمواد الطبيعية التي يجرب فيها الفيزيائي والكيميائي، لأن هذه الوثائق ليست هي الأحداث الواقعة».

إذن، متى بدأت عملية التدوين المنهجي العلمي للأحداث التاريخية؟ وهل لعلم الحديث علاقة بنشأة علم التاريخ الحديث؟

أولا، يجب أن نعرف أن علم الحديث بكل فروعه ليس في الحقيقة سوى ممارسة توثيق لسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحفظ لسنته، كونها مصدرا مهما من مصادر التشريع في الدين الإسلامي، وهذا ما يجعلنا نعتقد أن علم الحديث مجرد حقل متفرع من علم التاريخ، ولكن لضخامة علم الحديث وكثرة مؤلفاته وتعدد تخصصاته وحقوله، فإنه أخذ مكانة مستقلة عن علم التاريخ.

ولعله من المهم أن نورد قول الدكتور أسد رستم أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية، في كتابه المهم مصطلح التاريخ «والواقع أن الميثودلوجية الغربية التي تظهر اليوم للمرة الأولى بثوب عربي، ليست غريبة عن علم مصطلح الحديث، بل تَمتُّ إليه بصلة قوية. فالتاريخ دراية أولا ثم رواية، كما أن الحديث دراية ورواية، وبعض القواعد التي وضعها الأئمة منذ قرون عدة للتوصل إلى الحقيقة في الحديث، تتفق في جوهرها وبعض الأنظمة التي أقرها علماء أوروبا فيما بعد في بناء علم الميثودلوجية».

إن بداية وعي العرب بالتاريخ وضرورة توثيقه بدأت مع دراسة سيرة النبي وأخبار غزواته، وكان مركز النشاط في هذه الحركة التاريخية يتمثل في مكة والمدينة. فسيرة الرسول وضرورة حفظها وتوثيقها هي المحرض الأول للمسلمين في تبني مناهج علمية صارمة، لحفظ الأخبار المتعلقة بالنبي ونشرها عن طريق الرواية الشفوية، ثم عن طريق التدوين.

وتفرع عن تدوين السيرة النبوية فروع كثيرة، مثل: الطبقات والرجال والتراجم والسير وعلم الجرح والتعديل وعلم العلل.

فقد كان تحقيق الأحاديث في المجمل يحتاج علما ومهارة ودقة، وكان المؤرخ حريصا أشد الحرص على سرد سلسلة الرواة قبل تضمين أي خبر جديد، ولهذه الغاية أسسوا علم المصطلح، وهو علم أصيل عند المسلمين، يُعنى بأصول وقواعد يعرف بها أحوال السند والمتن، من ناحية القبول والرد، وهي منهجية صارمة في التحقق من الخبر التاريخي، ولو طبقت على أي نصوص تاريخية أخرى، فقد لا يصح منها شيء في ميزان علم الحديث، ولكن هذه الصرامة في التحقق من الخبر التاريخي لا تطبق إلا على السنّة النبوية لتعلّقها بالتشريع فهي مصدره الثاني.

والسند أو الإسناد هو سلسلة الرجال الموصلة للمتن، تمخض عنه علم آخر يعنى بدراسة مدى مصداقية رواة الحديث، يعرف بعلم الجرح والتعديل، وفيه تفصيل عن الراوي بما يقتضي رد روايته وتضعيفها أو ما يقتضي قبول روايته، ومن خلاله يعرف هل الحديث متصل السند وأن الرواة عدول وأنهم ثقات في ضبطهم وحفظهم.

ومن هنا نشأ ما يعرف بعلم الرجال الملازم لعلم الجرح والتعديل، وهو أشبه بسيرة ذاتية لراوي الحديث أو ما يعرف اليوم بـ(The Biography).

لم تقتصر دراسة علم الحديث على السند، بل تجاوزته نحو دراسة المتن دراسة لا تقل صرامة عن دراسة السند، ولا تقل عن المنهجية في مناهج النقد التاريخي الحديثة في مقارنة الأصول والنصوص والوثائق، وتتبع اتفاقها واختلافها، لذلك قام علم كامل وشامل يسمى «علم العلل» وظيفته دراسة العلل الخفية في الأحاديث، وأُلّفت فيه كثير من الكتب التي تمكن من تتبع علل الأحاديث وكشفها، وهي دراسات مقاربة نوعا ما لما يعرف اليوم في علم اللسانيات بتحليل الخطاب (Discourse Analysis).

إن دراسة السند ونقد الرواة من ناحية الجرح والتعديل، ومن ناحية ضبطهم وعدالتهم، كانت ملازمة لدراسة المتن لمعرفة العلل والأسباب الخفية التي تقدح في صحة الرواية. ولم تقتصر هذه الدراسات المعمقة لدراسة الحديث على الأحداث التاريخية الكبرى في حياة النبي، بل إنها اهتمت كذلك بأدق تفاصيل حياته اليومية وممارساته البسيطة. ونحن اليوم نقرأ هذه السيرة النبوية بأدق تفاصيلها، وكأننا نعيش تلك الحقبة ونراها ماثلة أمامنا.