يقدم الكاتب البريطاني جورج أورويل كثيرا من الحكمة والرؤية المتميزة في مقالاته، التي تميزت بالوضوح والذكاء وخفة الدم والبحث عن العدالة، وهو ما يعرضه كتاب «الكتب مقابل السجائر» الصادر عن دار مدارك، بترجمة علي الكندي، إقبال عبيد، متطرقا لرؤيته في النقد الأدبي والشعر الخيالي والصحافة الجدلية وغيرها.

وفي تقديمهما للكتاب يرى المترجمان أن «بعض المقالات تكون بمثابة الرسائل، التي تستشرف المستقبل، وتشكل مقالة جورج أورويل، «منع الأدب» واحدة من هذه المقالات».

وتكمل مقدمة الكتاب «يقول أورويل في مقالته إن الشمولية تجعل الأدب مستحيلا، وبـ»الأدب»، يقصد كل أنواع الكتابة النثرية، من القصة الخيالية إلى الصحافة السياسية؛ ويقترح أن الشعر ربما يستطيع أن يتسلل من الشقوق، ويكتب أيضا أن الأمر لا يقتصر على الأنظمة الشمولية أو البلدان الاستبدادية بمجملها فحسب، وإنما هناك شيء مثل «مجموعات من الناس الذين يعتنقون نظرة شمولية»، أو مجتمعات «الحقيقة الواحدة» من نوع ما، وهذه التكوينات مميتة للأدب هي أيضا.

وتقرر المقدمة كذلك أن «أورويل كان محقا، فالأنظمة الشمولية تعتمد على الأكاذيب لأنها هي نفسها أكاذيب، ويجب أن يقبل الفرد في النظام الشمولي بها كحقيقة لا يجب، في الحقيقة، أن يصدقها وإنما أن يقبلها كأكاذيب، وباعتبارها الحقيقة الوحيدة المتاحة في الوقت نفسه، وكما تنبأ أورويل، تقوم الأنظمة الشمولية مع الوقت بتدمير مفهوم الحقيقة ذاته، وإمكانية وجود الحقيقة ذاتها».

وتتابع «لكن، لماذا بالضبط اعتقد أوريل أن كل هذا مدمر للأدب؟ عرَّف أورويل الأدب بأنه نوع من الحوار، «محاولة المرء التأثير على وجهة نظر معاصريه عن طريق تسجيل التجربة».

وأضاف أنه «ليس هناك شيء اسمه أدب غير سياسي بشكل أصيل، وخاصة في عصر مثل عصرنا، عندما تقع المخاوف، والكراهيات، والولاءات من النوع السياسي الصرف، قرب السطح من وعي الجميع».

ويستطيع حتى محرَّم واحد أن يمارس تأثيرا شالا مقعِدا شاملا على العقل، لأن هناك دائما خطر أن أي فكرة تتم متابعتها بحرية، ربما تؤدي إلى الفكر المحظور، ويترتب على ذلك أن يكون مناخ الشمولية مميتا لأي نوع من كُتّاب النثر».

السجائر مقابل الكتب

«8 فبراير 1946 ـ صحيفة التريبيون»

منذ عامين، كان لي صديق ، يعمل كمحرر صحفي، مولع بمقابلة بعض عمال المصانع، تطرقوا للحديث معه عن صحيفته التي يقرأها معظمهم ويدعمونها، ولكن حين سألهم حول آرائهم بشأن القسم الأدبي، كان الجواب هو: «أنت لا تفترض أننا نقرأ هذه الأشياء، أليس كذلك؟ لماذا، ففي أغلب الوقت أنت تتحدث عن الكتب التي تكلف اثني عشر شلنا وستة بنسات! شبان بعمرنا ليس باستطاعتهم هدر اثني عشر شلنا وستة بنسات على كتاب».

كما ذكر لي أن هؤلاء كانوا من نوع الرجال الذين لن يجدوا صعوبة في هدر الجنيهات لرحلة ليوم واحد إلى بلاكبول.

هذه الفكرة في شراء أو حتى قراءة الكتب هي هواية مكلفة، وبعيدة عن متناول الشخص العادي، منتشرة لدرجة أن الأمر بات يحتاج لدراسة تفصيلية، فمن الصعب تقدير تكاليف القراءة بالضبط، والتي يمكن احتسابها على بنس في الساعة، ولكنني بدأت عبر جرد الكتب الخاصة بي، وجمعت سعرها الإجمالي، وبعد تخصيص مصروفات أخرى مختلفة، يمكنني أن أكوّن فكرة مبدئية عن نفقاتي، خلال الخمس عشرة سنة الماضية، إن الكتب التي أحصيتها وثمنتها هي تلك التي لدي هنا، في شقتي، لدي رقم مشابه تقريبا مخزّنه في مكان آخر، لهذا السبب سوف أقوم بمضاعفة الرقم النهائي من أجل الوصول إلى المبلغ الكامل، لم أحصِ بقايا الكتب مثل النسخ المنقحة أو المجلدات المشوهة أو الطبعات الرخيصة الورقية أو الكتيبات أو المجلات، ما لم تكن بشكل كتاب، كما أنني لم أحسب هذا النوع من الكتب المدرسية القديمة، والكتب غير المرغوب فيها تلك التي تتراكم في قيعان الخزائن، لقد أحصيت فقط تلك الكتب التي ابتعتها طواعية، والتي كنت سأرغب في الحصول عليها طواعية، والتي أعتزم الاحتفاظ بها، في هذه المجموعة وجدت أن لدي 442 كتابا حصلت عليها بالطرق التالية:

اشتريتها (معظمها مستعملة) 251، مُنحت لي أو اشتريتها بقسائم لشراء الكتب 33، مراجعة نسخ ونسخ مجانية 143، مقترض وغير مرتجع 10، مؤقت على سبيل الإعارة 5، المجموع 442.

إضافة إلى الدفعة الأخرى التي امتلكتها من الكتب في مكان آخر، يبدو لي أن لدي ما يقرب من 900 كتاب، بتكلفة قدرها 165 جنيها استرلينيا، هذا هو تجميع ما يقارب الخمسة عشر عاما، في الواقع أكثر من ذلك، لأن بعض هذه الكتب يعود تاريخها إلى طفولتي: لكن يمكن أن نقول خمسة عشر عاما، وهذا يكلف حوالي 11.1 جنيها استرلينيا كل عام، ولكن ثمة رسوم أخرى يجب إضافتها لتقدير مصاريف القراءة بالكامل، النسبة الأكبر ستكون للصحف والمجلات، ولهذا أعتقد أن 8 جنيهات استرلينية سنويا ستكون رقما معقولا. ويغطي مبلغ ثمانية جنيهات سنويا تكلفة صحيفتين يوميتين، وصحيفة مسائية واحدة، وصحيفتين يوم الأحد، ومجلة أسبوعية واحدة، ومجلة واحدة أو مجلتين شهريتين، هذا يجعل الرقم يصل إلى 19جنيها استرلينيا وشلن واحد، ولكن للوصول إلى المجموع الكلي يجب أن نخمن.

من الواضح أن المرء غالبا ما ينفق المال على الكتب دون أن يكون لديه أي شيء ليعرضه، هناك اشتراكات في المكتبة، وهناك أيضا اشتراكات للكتب، خصوصا من البينجوين وغيرها من الطبعات الرخيصة الأخرى، والتي يشتريها المرء ثم يفقدها أو يتخلص منها. ومع ذلك، بناء على توقعاتي الأخرى، يبدو أن 6 جنيهات استرلينية سنويا كافية لإضافة نفقات من هذا النوع، لذا فإن إجمالي نفقات القراءة على مدار الخمسة عشر عاما الماضية كانت في حدود 25 جنيها استرلينيا سنويا.

خمسة وعشرون جنيها في السنة يبدو كثيرا إلى أن تبدأ في مقارنتها مقابل أنواع أخرى من الإنفاق، إنه ما يقارب 9 شلنات و9 قروش في الأسبوع، و9 شلنات و9 قروش تساوي في الوقت الحالي حوالي 83 سيجارة: حتى قبل الحرب كان هذا المبلغ سيشتري لك أقل من 200 سيجارة، مع الأسعار كما هي الآن، فإنني أنفق على التبغ أكثر بكثير مما أفعله على الكتب.

قمع الأدب

منذ أكثر من عام مضى، حيث حضرت اجتماعا لنادي القلم الدولي، هذه المناسبة هي الذكرى المئوية لكتاب «ايروباجتيكا» لجون ميلتون، ويمكن تذكر هذا الكتاب، حيث كان له صاع في الدفاع عن حرية الصحافة.

وطُبعت عبارة ميلتون الشهيرة عن خطيئة «قتل» كتاب على المنشورات، التي تعلن عن الاجتماع الذي تمّ تعميمه مسبقا، كان هناك أربعة متحدثين على المنصة، ألقى أحدهم خطابا عن حرية الصحافة، ولكن فقط فيما يتعلق بالهند.

وقال آخر بتردد، وبعبارات شائعة جدا، إن الحرية كانت أمرا جيدا، ثم ألقى ثالث هجوما على القوانين المتعلقة بالتلفظ البذيء في الأدب المنشور، خصص الرابع معظم خطابه للدفاع عن التطهير الروسي. من الخطب التي أثارت دوي القاعة، وعاد البعض إلى مسألة الفحش والقوانين التي تتعامل معها، وندد البعض الآخر بروسيا السوفياتية. تمت الموافقة على الحرية الأخلاقية في مناقشة المسائل الجنسية بصراحة، تمت الموافقة عليها بشكل عام، ولكن لم يتم ذكر الحرية السياسية.

انطلاقا من هذا الملتقى الذي جمع مئات من الناس، ربما كان نصفهم على صلة مباشرة بتجارة الكتب، لم يكن هناك شخص واحد يستطيع أن يشير إلى أن حرية الصحافة، إذا كانت تعني أي شيء على الإطلاق، تعني حرية الانتقاد والمعارضة.

بصورة ملموسة، لم يقتبس أي متحدث من الكتيب الذي كان يحيي ذكراه، ولم يكن هناك أي ذكر للكتابات المختلفة التي «اختفت» في إنجلترا والولايات المتحدة أثناء الحرب.

في أثرها الصافي كان الاجتماع مظاهرة مؤيدة للرقابة على المطبوعات، لم يكن هناك شيء مثير للدهشة في هذا، في عصرنا، تتعرض فكرة الحرية الفكرية للهجوم من اتجاهين، أعداء النظريات من جانب، والمدافعون عن الاستبداد من جانب آخر، ومن جهة أخرى الأعداء العمليون الحاليون، والاحتكار والبيروقراطية، يجد أي كاتب أو صحفي يريد الحفاظ على نزاهته أنه أحبط بسبب الانجراف العام للمجتمع بدلا من الاضطهاد النشط.

هذا النوع من الأمور التي تتمثل وتكمن في تركيز الصحافة في أيدي عدد قليل من الرجال الأغنياء، وقبضة الاحتكار على الراديو والأفلام، وعدم رغبة الجمهور في إنفاق المال على الكتب، مما يجعله ضروريا تقريبا كل كاتب لكسب جزء من رزقه وفق السياسة التجارية، وتخطي الهيئات الرسمية مثل وزارة الإعلام والمجلس الثقافي البريطاني، والتي تساعد الكاتب في البقاء على قيد الحياة، ولكنه في المقابل يضيع وقته ويمنع صوته من إبداء آرائه، في حالة الحرب المستمرة في السنوات العشر الماضية، والتي لم يتمكن أي أحد من الفرار من تأثيراتها المشوهة المدمرة.

يقوم كل شيء في هذا العصر بالتآمر على تحويل الكاتب، وكذلك كل أنواع الفنون الأخرى، إلى مجرد خادم وضيع يقوم بالعمل على موضوعات يكلف بها من رؤسائه، ويحرم عليه التعبير عن الحقيقة الكاملة من وجهة نظره الخاصة، ولكنه في ظل الصراع ضد هذه الكارثة لا يحصل على أي دعم؛ حيث إنه لا يوجد أي من أصحاب الرأي الكبار سيقف إلى جانبه، ويؤكد صحة موقفه.

السياسة واللغة الإنجليزية

«إبريل 1946 – صحيفة الأفق»

معظم الذين يولون الموضوع أية أهمية، يرون أن اللغة الإنجليزية في وضع سيئ، ولكن على العموم يفترض الجميع أننا لا نستطيع القيام بأي فعل واعٍ لمعالجة الأمر.

حضارتنا في تدهور، ولغتنا، يقول هؤلاء، حتما ستتدهور معها، ينتج عن ذلك أن أي معركة مع إساءة استخدامها تقليدٌ عاطفي؛ يشبه تفضيل الشموع على الكهرباء، وعربات الأحصنة على الطائرات، خلف كل هذا يكمن الاعتقاد النصف واع بأن اللغة ظاهرة طبيعية، وليست أداة نقولبها تبعا لغاياتنا.

من الواضح أن انحدار اللغة يجب أن يعود بشكل كامل إلى أسباب اقتصادية وسياسية: ليس السبب ببساطة هو التأثير السيئ لهذا الكاتب أو غيره، ولكن الأثر قد يصبح سببا، فيعضُدُ السببَ الأصلي ويُنتج الأثر ذاته بشكل أقوى، في حلقة مُفرغة، قد يرغب المرء بالشرب لشعوره بأنه فاشل، ومن ثم يصبح أكثر فشلا بسبب الشرب. الأمر نفسه يحصل مع اللغة الإنجليزية، أصبحت بشعة وغير دقيقة لأن أفكارنا حمقاء، ولكن رثاثة لغتنا تسهّل وصولنا إلى أفكار حمقاء. ما أريد قوله إن باستطاعتنا تغيير الوضع، الإنجليزية الحديثة، بخاصة الإنجليزية المكتوبة، مليئة بعادات سيئة سادت بسبب محاكاة الكتّاب بعضهم بعضا، والتي من الممكن تفاديها إن قرر المرء خوض المصاعب الضرورية لذلك، إذا تخلّص المرء من هذه العادات سيمكنه التفكير بشكل أوضح، والتفكير بوضوح خطوةٌ أولى ضرورية لإحياء السياسة: لذا فالمعركة مع الإنجليزية السيئة ليست تافهة ولا تقتصر فقط على الكتّاب المحترفين.

كما يحلو لي

«14 يناير 1944»


العادة القديمة في تجليد المجلات والدوريات على شكل كتاب يبدو لي أنها اندثرت تماما، وهذا الشيء يدعو للأسف، إصدارات سنة كاملة حتى لمجلة تافهة جدا ممتعة أكثر للقراءة، بعد مرور بعض الوقت من غالبية الكتب، لا أعتقد أني حصلت على صفقة جيدة أكثر من حصولي على دزينة من مجلدات مجلة Quarterly Review ابتداء من عام 1809، اخترتها ذات مرة مقابل 2 شلن من مزاد في إحدى المزارع، ولكن قيمة 6 قروش تساوي أعداد سنة كاملة من Cornhill عند إما ترولوب أو ثاكيراي، لقد نسيت من كان رئيس تحريرها حينها، صفقة جيدة أخرى كانت شراء أعداد غريبة من مجلة Gentleman’s من منتصف الستينيات بثلاثة قروش لكل منها. كما كانت لدي بعض الساعات النصف سعيدة مع Papers for the People لشامبرز، التي تألقت في الخمسينيات، the Boy’s Own Paper في أيام حرب البوير وStrand في أيام شيرلوك هولمز العظيمة وكتاب للأسف لم أقتنِه فقط رأيته، مجلد على شكل ملزمة لـAthenaeum في مطلع العشرينيات، عندما كان ميديلتون موري محررا لها وت.س.إليوت و إي.أم.فوستر وكثر آخرون يصنعون تأثيرهم الأول على جمهور كبير، أنا لا أعرف لماذا لا يزعج أحد نفسه بأن يقوم بذلك في الوقت الحاضر، الحصول على أعداد سنة كاملة في مجلد واحد أقل كلفة من شراء رواية، ويمكنك القيام بذلك بنفسك، إذا كان لديك وقت إضافي والمواد اللازمة.

السحر العظيم في هذه المجلات القديمة هي أنها تكمل الحقبة التي هي فيها، هي تستوعب أمور هذه اللحظة، هي تخبرنا عن المواقف والاتجاهات السياسية، التي بالكاد ذكرت في كتب التاريخ الأكثر عمومية، من المثير للاهتمام على سبيل المثال، أن نقرأ في المجلات المعاصرة عن خوف الحرب في الستينيات، عندما كان يفترض من جميع الجوانب أن بريطانيا على وشك أن تغزى، تم تشكيل المتطوعين، الخبراء الاستراتيجيون الهواة نشروا خرائط تبين المسارات، التي يعتقد أن الجيش الفرنسي سوف يتجمع بالقرب منها في لندن، والمواطنون المسالمون تجمعوا في خنادق بعيدا عن رصاصات البنادق.

الخطأ الذي لم يكن جميع المشاهدين البريطانيين تقريبا في ذلك الوقت يلاحظونه هو أن ألمانيا كانت خطيرة، كان من المفترض أن يأتي الخطر الوحيد من فرنسا، التي أطلقت النار على قمة جبلية كقوة عسكرية، في حين أنه لم يكن هنالك سبب للتخاصم مع بريطانيا، وأعتقد أن القراء في المستقبل إذا غاصوا في صحفنا ومجلاتنا سوف يلاحظون انحرافا متماثلا في رفض الديمقراطية والإعجاب الواضح بالنزعة الشمولية، التي ضربت المثقفين البريطانيين عام 1940، مؤخرا، وأنا أقلب صفحات Horizon، رجوعا، وصلت إلى مقال طويل لجيمس بورنهام بعنوان (الثورة الإدارية)، حيث تمّ قبول فرضية بورنهام دون فحصها، إنها توضح أن كثيرا من الناس قد صدقوا أكثر نبؤة متقنة في عصرنا، تم ترسيخ الاعتقاد بأن الجيش الألماني حقا لا يقهر، ولكن كل هذه الأشياء ذهبت في مهب الريح في النهاية.

الكتاب

الكتب مقابل السجائر

الناشر

دار مدارك

المؤلف

جورج أوريل

المترجمان

علي الكندي

إقبال عبيد

الصفحات

130