قراءة في التصعيد الأميركي في مياه الخليج مع إيران

يُعرف التعبير السياسي رويدو دي سابليس أو «saber rattling» بكونه حالة سياسية، يعبَّر عنها باستعراض القوة العسكرية لأغراض تهديدية، ومع إخطار إيران لشركائها، أربعة من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى ألمانيا، أنه إذا لم تستطع طهران الاستفادة من الاتفاق النووي، فسوف تفكر في الانسحاب من بعض بنوده، أو منه كليا، وبالتزامن مع التحشيد الأميركي في مياه الخليج، بعد التخريب في ميناء الفجيرة، فهل ستنشب صراعات عسكرية ما بين الولايات المتحدة وإيران، أم مجرد استعراضات أميركية على طريقة رويدو دي سابليس، دافعة بقوة التهديد تجاه التفاوض؟

معضلة طهران

01 التوترات البحرية بين إيران والولايات المتحدة سبقت الهجوم على الناقلات في الفجيرة، بل هي حتى تسبق التجاوزات الحاصلة في أكتوبر الماضي، عندما مر زورقان إيرانيان بشكل متعد، بالقرب من الحاملة الأميركية أسيكس، ولكن على مستوى سياسي وبحثي وإعلامي، فإيران ليست قلقة من الحرب العسكرية، أما حربها الاقتصادية فقد بدأت بالفعل.

02 تواجد المعدات الأميركية في المياه الخليجية ليس دليلا وافيا على الضربات، واستعداد أميركا لها، فهذا التواجد روتيني ودوري في المنطقة، وإرسال الجنود الأميركيين سيتطلب أشهرا لتنفيذه، وهو ما يعطي إيران التوقيت المثالي للتفكير بالحل.

03 إيران تشخص الأهداف الأميركية جيدا، وإذا انحلت تلك الأهداف انتهى التهديد، الأهداف هي ضرب التجارة الخارجية الإيرانية، وإدراج الحرس الثوري كمنظمة إرهابية، لكن ترى إيران بأنها لم تخرج «وهذه إشارة دولية جيدة» من تعهدات الاتفاق النووي، فهي وإن قللت من تعهداتها فقد كان هذا ضمن البنود أصلا، البند (37) ومعه (26) يمنحان إيران استحقاق التوقف عن الالتزام بالتعهدات في الاتفاق النووي بشكل جزئي أو كامل، في حال تم فرض عقوبات عليها، وهاهي العقوبات قد حدثت، ولهذا فالتزامها بالمسار وعدم خروجها عن البنود في الاتفاق مريح للاتحاد الأوروبي، الذي شارك في الاتفاق ودافع عنه، ومريح لحليفتها روسيا التي بدأت تلمس تحسنا في علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، خصوصا بعد زيارة بومبيو الأخيرة إلى روسيا.

04 الداخل الإيراني المعتدل يخشى أن تقوّي حالة التحفز الأميركية القوى المتشددة في إيران، وهذا الديفاكتو مفهوم للغاية، إذ أن التيار المتشدد في داخل إيران ينشط بمعدلات أعلى في حالات التهديد الخارجي.

05 مرت المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة بكثير من المسارات، خلال 40 عاما، لكن التصعيد بهذه الصيغة هذه المرة يعد سابقة، فقد تفاوضت الأطراف خلال الأيام التي سبقت القبول بقرار مجلس الأمن رقم 598، الذي عن طريقه تم وضع خاتمة للحرب العراقية الإيرانية، وهناك المفاوضات التي جاءت بعد حرب أفغانستان، وهناك المفاوضات في الميدان العراقي، ما بعد حرب 2003، ومن ثم الاتفاق النووي JCPOA في 2015، ورغم ضخامة التهديد فإن إيران تثق بعدم نشوب الحرب.

06 إيران حاليا تقف أمام معضلتين، الأولى: موقفها الداخلي من العقوبات الاقتصادية، والثانية: صمت الحلفاء وموقف الشركاء الباهت في الاتفاق، فالصين وروسيا اقتصرتا على المواقف الكلامية حتى الآن، والاتحاد الأوروبي لم يبذل جهدا تجاريا بالقدر الذي كانت تأمله.

07 تبدو الخيارات الإيرانية الحالية ضيقة، وليس أمامها سوى أن تستعجل بالتفاوض على اتفاق جديد، مثلما حدث مع كوريا الشمالية، أما التهديدات الأخرى مثل إغلاق مضيق هرمز أو زرعه بالألغام، كما حدث في الحرب العراقية - الإيرانية؛ ففي الواقع خسائرها منه ستكون أضعاف خسائر غيرها، فهي تمرر نحو 70 % من صادراتها النفطية وغير النفطية من ذلك المنفذ، أو أيضا مثل التعويل على الحلفاء والشركاء ومواقفهم.

بالنسبة للولايات المتحدة

01 ترمب لا يطمح لخوض حرب مع إيران، حتى بعد تحقيقات مولر وبعض الملفات الضريبية الخاصة كما يزعم بعض المحللين الأميركيين، باعتبار الحرب رد فعل استباقي للانتخابات المقبلة، وقد أعلن بنفسه بأن جون كيري يضغط عليه ويمنعه من التواصل مع إيران، وبأن كيري يخرق قانون لوجان، وذكر صراحة بأنه يرغب منهم الاتصال والجلوس على طاولة المفاوضات، ولكن ثمة من يمنعه.

02 في سنة 2017، كان جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي الحالي قد كتب مقالا نشره عن طريقته المثلى في الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ومن بين تلك النقاط حصر الخيارات الإيرانية لتغيير النظام، ودعم المعارضة، وتحييد روسيا والصين عن الأمر، وهو الآن يحاول الضغط بشدة لتفعيل طريقته تلك.

03 يسعى ترمب شخصيا إلى التفاوض، لكن المفاوضات التي يريدها هذه المرة، لن تكون بالشراكة مع أطراف آخرين، بل مفاوضات مباشرة بين الجانبين على اتفاق أفضل من ذاك الذي عقده سلفه باراك أوباما، ليس فقط فيما يتعلق بالنووي، بل يمتد إلى البرنامج الصاروخي، والنفوذ الإقليمي، لكن ماذا لو رفضت إيران التفاوض؟، سيتأزم موقفها في المجتمع الدولي، وستُرغم الدول الأوروبية التي شاركت في الاتفاق على مسايرة ضغوط الولايات المتحدة على إيران وحصارها عوضا عن الدفاع عن الاتفاقية، وفي هذه الحالة قد يتم تفعيل البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وسيدخل مجلس الأمن في الأزمة على أساسات ما قبل الاتفاق النووي.

بالنسبة الصين

01 وسط ضغوط عالية من إدارة ترمب على إيران تجلى في قرارها عدم تمديد الإعفاءات عن العقوبات الممنوحة للعملاء الرئيسيين للنفط في طهران، وقد لا تستفيد إيران بالكامل من الصين كمشتري للنفط. ومع ذلك فقد تستمر بكين في أن تكون جزءا من الحل الإيراني، للتخفيف من آثار العقوبات الأميركية.

02 هناك كثير حول الصين لجعلها حليفا قيما لإيران: كونها الشريك التجاري الأكبر لطهران، وتتلقى أكبر حصة من صادرات إيران من النفط الخام، وهي عضو دائم في مجلس الأمن الدولي، وقبل كل شيء تعد الصين واحدة من الدول الموقعة على خطة العمل الشاملة المشتركة، وواحدة من الحلفاء السياسيين الرئيسيين لطهران.

03 العلاقات الإيرانية - الصينية في العقود الأخيرة تميل لكونها ثلاثية أكثر من كونها علاقات ثنائية، حيث فرضت الولايات المتحدة وجودها لتشكيل تلك العلاقات بطريقة أو بأخرى، وفرض ضغط واشنطن على بكين قيودا على تلك العلاقات، ولكن المخاوف المشتركة بشأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة قد أدت أيضا إلى تقريب نوعي بين إيران والصين معا، مما أوجد أرضية لمزيد من التعاون.

04 هذه الإجراءات الأميركية التي تهدف إلى تقليل التعاطي بين إيران والصين ليست بالأمر الجديد، تعود مثل هذه السياسات إلى ثمانينيات القرن الماضي، عندما عارضت واشنطن مبيعات الأسلحة الصينية لإيران، لأن الأخيرة كانت مشغولة بشن حرب مطولة بدأها العراق.

إن الضغط الأميركي على الصين في منتصف التسعينيات بسبب تعاونها النووي مع إيران أدى إلى عرقلة التعاون، ومع ذلك على الرغم من الصعود والهبوط، فقد حافظت كل من الصين وإيران بمرور الوقت بشكل عام على تلك العلاقات.

05 تعزز استثمارات المؤسسات الصينية في أميركا التردد الصيني في زيادة كمية النفط المستوردة من إيران، والتي تراجعت بعد العقوبات بنسبة الربع، وهو ما يرسم مسافة واضحة بين الموقف السياسي، وبين السياسة العملية في العلاقات ما بين بكين وطهران.

06 في ظل الظروف العالمية الحالية، يتم إعادة تشكيل المثلث الأميركي-الإيراني-الصيني، إذ تقترب بكين وواشنطن من التوصل إلى تسوية في حربهما التجارية، وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة للصين، تتضمن طلبا أميركيا للصين بوقف شراء النفط الإيراني، ولو حدث ذلك، فإن الصفقة التجارية بين الولايات المتحدة والصين يمكن أن تشكل ضربة للعلاقات بين طهران وبكين، رغم أنه من غير المرجح أن تكون هناك نهاية سريعة كهذه للحرب التجارية ما بين الولايات المتحدة والصين.

07 على المدى المتوسط ​​إلى المدى الطويل، لا يمكن لإيران أن تميل ببساطة نحو الصين لتجنب الحصار الأميركي، إذ لا تشكل طهران سوى 1 ٪ من إجمالي التجارة الخارجية لبكين، في حين أن الولايات المتحدة هي الشريك التجاري الرئيسي للصين، وتهيمن على النظام المالي العالمي، وتظل أكبر سوق في العالم.

بالنسبة لأوروبا

01 من وجهة النظر الإيرانية فقد أصبحت الكرة الآن في ملعب الأوروبيين لتفعيل الآليات المتوقعة بشكل كامل للسماح بالتفاعلات الاقتصادية مع إيران في فترة العقوبات الأميركية المتزايدة، ومع ذلك، فإن الإشارة الإيجابية لرغبة إيران في الالتزام بالمسار الدبلوماسي، والسير على بنود الاتفاق النووي يمكن أن تحجبها الإشارة السلبية المتمثلة في عجز أوروبا أو عدم استعدادها لمقاومة ضغوط الولايات المتحدة بشكل فعّال، وإنشاء قنوات تجارية ذات مغزى للتبادلات مع إيران.

02 قاعدة حل الأزمة الحالية تكمن في الاقتصاد بشكل أولي، وبمعنى آخر، فإن الطريقة الوحيدة لإنقاذ الاتفاق في الوضع الحالي هي أن تسرّع أوروبا من الآلية الخاصة للتفاعلات المالية مع إيران (INSTEX)، وأن تقدم حلولا حقيقية لتقليل الآثار الاقتصادية السلبية للعقوبات الأميركية.

03 يبدو موقف الدول الأوروبية الذي تتوقع إيران منه زيادة في حجم التجارة والاستثمار والتبادل التكنولوجي له اتجاهين إلى حد ما، فأوروبا لا ترغب في التصعيد مع الولايات المتحدة، كما أنها لا تريد خسارة سوق بهذا الحجم الكبير، وهناك سيناريو يمكن للأوروبيين من خلاله الإسراع في إنشاء آليات بديلة للتسوية المالية من شأنها إخراج الشركات من العقوبات الأميركية.

بالنسبة إلى روسيا

01 تعد روسيا الفاعل الدولي الأهم بالنسبة إلى إيران اليوم، وقد ذكرت موسكو بأنها «تقدر الالتزام الإيراني» بالبقاء في الصفقة بغض النظر عن المحاذير المعلنة.

02 ومع ذلك، فإن روسيا لا تراعي دائما إيران في سورية، إلا أن الوصول إلى علاقة مستقرة في الجوار المشترك ضرورة روسية، لا سيما في مواجهة الضغوط الاقتصادية والسياسية والعسكرية المتزايدة من الولايات المتحدة على البلدين، فهي «شريك قديم يمكن التنبؤ به لموسكو في منطقة الشرق الأوسط».

03 تنظر روسيا لاستقرار إيران ونظامها كشرط أساسي لتوفير استقرار الأمن القومي الروسي، وتعزيز الاستقرار في القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط.

04 مشاركة التظلمات تقرب البلدين (إيران وروسيا)، كالعقوبات الاقتصادية على البلدين والضغط السياسي، وقد أشار لافروف، بأنه على استعداد للشراكة مع إيران لمحاولة إقناع الأوروبيين بالالتزام بالصفقة النووية، ودعم آليتهم المالية المقترحة لـINSTEX لتصدير النفط الإيراني.

05 إيران وروسيا تستعدان لتوثيق العلاقات العسكرية والدفاعية أيضا، ففي الأسبوع الماضي، أعلن قائد البحرية الإيرانية النظامية عن خطط لإجراء مناورات عسكرية إيرانية روسية مشتركة في الخليج العربي، رغم الخلافات بين البلدين في سورية، وليست هذه هي المرة الأولى التي تجري فيها روسيا وإيران مثل هذه التدريبات، فقد مرّ بحر قزوين بمرحلة من الألعاب الحربية المماثلة بين عامي 2015 و2017، لكن ما يجعل التدريبات الإيرانية الروسية الجديدة مهمة هو توقيتها، وآخر التطورات التي سبقتها.

06 ترى روسيا بأن هذه هي سياسة ترمب، فقد تفاوض مع كوريا الشمالية، عقب تهديدات تلتها مفاوضات دبلوماسية على الطاولة، وبكون ما يحدث مجرد «رويدو دي سابليس»، أي أنها مجرد استعراض قوة للدفع نحو الطاولة وليست للتمزيق الفعلي للنظام الإيراني، وقد فعلها ترمب أيضا مع روسيا نفسها عندما ألغى لقاءه المرتب له مع بوتين على هامش قمة العشرين في الأرجنتين، بسبب ما عُرف بالاعتداء الروسي على السفن الأوكرانية في مضيق كيرتش، لكنه الآن يعود ليطلب لقاء مع بوتين في أوساكا في اليابان على هامش قمة العشرين المقبلة، وإن كان ترمب سيضرب إيران، فلماذا لم يضرب فنزويلا القريبة منه؟، في الواقع هذه هي دوافع التصريحات الروسية الهادئة حيال التصعيد في مياه الخليج.

07 دعم روسيا السياسي لإيران في الأمم المتحدة مهم للغاية، في حال قرر الأوروبيون الانضمام إلى الولايات المتحدة وإحياء العقوبات الدولية على إيران، بحجة عدم التزامها الكامل بمشروع JCPOA، كما بإمكان روسيا أن تعمل كوسيط بين إيران وخصومها في المنطقة، مثل المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، تعتقد روسيا أنها لعبت دورا كبيرا في ربط إيران باتفاقية أوبك+، والتي نظمت إمدادات النفط وأسعاره في الأسواق العالمية.

ومن الناحية النظرية، يمكن لروسيا كدولة لها علاقات جيدة مع كل من إيران وإسرائيل سويا، أن تساعد في تخفيف التوترات وزيادة إمكانية التنبؤ في هذه العلاقات المعقدة للغاية، يمكن لروسيا أن تفعل كثير أعلى المستوى السياسي.

08 اقتصاديا، لا تستطيع روسيا أن تحل محل أوروبا كمحرك محتمل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لإيران. بالنسبة لمساهمات روسيا المحتملة، فهي لن تتمكن من التأثير بشكل كبير على الوضع الاقتصادي في إيران، إذا نظرنا إلى إجمالي التجارة والاستثمار بين البلدين، فلن نجده كبيرا.

09 يقترح الخبير الروسي أندري كورتونوف، وهو مدير مجلس الشؤون الدولية الروسي، أن الحل طويل الأمد للمشكلة برمتها يتطلب من المجتمع الدولي إيجاد مكان مناسب لإيران في بنية الأمن الإقليمي، لكي «تتوقف عن أدوارها التخريبية»، ويعترف كورتونوف بأن الأمر سيستغرق بعض الوقت، ويتطلب تدابير لبناء الثقة، واتصالات موسعة بين القوات العسكرية والاتفاقيات بشأن الوجود العسكري الأجنبي في سوريا، وكلها موقوفة الآن على التزام الولايات المتحدة الحالي، بما يتعلق بإيران.

10 بينما يذكر أليكسي أرباتوف، رئيس مركز الأمن الدولي بمعهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، «أنه من بين القيود المتعددة التي حددتها JCPOA، لا تزال إيران ملتزمة بأهم القيود، ومع ذلك فإن البنود التي تراجعت عنها لا تزال مهمة»، نرى هنا كيف يجادل خبراء منع انتشار الأسلحة النووية، من أمثال أرباتوف، بأنه مع انخفاض المخزون من 20 طنا ما قبل JCPOA إلى 100 كيلوجرام بعد JCPOA، وتقليل عدد أجهزة الطرد المركزي وقدرة منشأة فوردو النووية، فإن احتمال قيام إيران بصنع قنبلة نووية لا يزال بعيد المنال حتى، ومن هذه النقطة تحديدا يمكن لروسيا دفع إيران نحو التفاوض وطمأنة المجتمع الدولي.

11 يجادل الخبير الروسي أندريه باكليتسكي بأن المرحلة الثانية التي أعلنها الرئيس روحاني تعني زيادة في مستويات التخصيب (أي أعلى من 3.67 ٪ التي نصت عليها بنود الاتفاق)، وإلغاء خطط إعادة بناء منشأة أراك النووية، وستكون أكثر خطورة.

ويقول بأن مواكبة عمليات التفتيش الدولية ستكون ذات أهمية حاسمة، حتى يمكن للأطراف تجنب التصعيد أو الصراع الكامل الذي لا تقره روسيا ولا تبتغيه.