قبل الحديث عن طه حسين وعلاقته بالاستشراق، وهل من الصواب وضع دراسات طه حسين وكتاباته عن التاريخ العربي والإسلامي، وعن الأدب العربي في خانة الدراسات الاستشراقية، فإنه لزام علينا توضيح معنى مفهوم الاستشراق ابتداءً، الذي يكاد يكون بلا تعريف واضح ومحدد. بيد أن هناك تعريفات حاولت تقريب مفهوم الاستشراق إلى الأذهان، لعل أحدها تعريف محمد عبدالله الشرقاوي، الذي يرى أن المستشرقين هم أولئك النفر من الباحثين الغربيين، الذين تخصصوا في دراسة لغات الشرق بعامة وآدابه وعقائده، منهم أولئك النفر الذين تخصصوا في دراسة اللغة العربية أو الدين الإسلامي، قرآنا وسنة وتشريعا وحضارة، وفكرا وتصوفا وفلسفة، وفنونا وآدابا وعادات وتقاليد. ويحدد قاموس أكسفورد الجديد المستشرق بأنه «من تبحّر في لغات الشرق وآدابه». في حين يرى محمد زقزوق أن الاستشراق «يمثل الخلفية الفكرية لقضية الصراع الحضاري بين العالم الإسلامي والعالم الغربي»، فهو يَعدُّ الاستشراق قضية صراع حضاري، جعلت من ساحة الفكر والثقافة جبهة صراع، ودائرة الصراع الثقافي لا تنفصل عن بقية دوائر الصراع الحضاري. وخلال ثنائية الشرق والغرب وصراع الشرق والغرب، التي خلقها الاستشراق وجعلها محورا لاهتمامه، وقع طه حسين تحت تأثير ثنائية التقابل بين الشرق والغرب، الأمر الذي دعاه إلى إلحاق مصر بالثقافة الغربية والتبرير لذلك. ففي كتابه المثير للجدل «مستقبل الثقافة في مصر»، يقرر طه حسين أن مصر أمة غربية وليست شرقية، وأنها كانت غربية منذ عهد الفراعنة حتى اليوم، ولم تكن يوما ما شرقية، ولم تطق أن تكون يوما شرقية. كانت قضية انتماء مصر الحضاري، من أكثر نقاط الكتاب إثارة للجدل «أمصر من الشرق أم من الغرب؟». كان هذا هو السؤال العريض الذي طرحه طه حسين، وأراد أن يطرح كل المبررات التي تثبت غربية مصر، وبُعدها عن الشرق من ناحية المزاج الشعبي والتصور العقلي، وهو لا يقصد الشرق الجغرافي، بل يقصد الشرق الثقافي بطبيعة الحال. وبعد أن طرح مبرراته على أن مصر أمة غربية، والشعب المصري ينتمي بعقله ووجدانه وتاريخه إلى الأمم الغربية، طرح توصياته بأن تكون ثقافة مصر في المستقبل ثقافة أوروبية خالصة، وأن يكون اتجاه الحياة أوروبيا خالصا، وأن تتأثر بأوروبا في غير تردد ولا تلكؤ، وبلا انتقاء أو تمحيص أو اختيار. فكما أن الخديوي إسماعيل حلم بأن يجعل مصر قطعة من أوروبا، فإن طه حسين يتوق إلى تحقيق هذا الحلم على أسس فكرية وتربوية وثقافية أرسخ، ويجب أن نضع في الحسبان أن كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» كان يحتوي -في أجزاء كبيرة منه- على توصيات طه حسين فيما يتعلق بمستقبل التعليم في مصر، في مراحله الأولية والثانوية، وصولا إلى المراحل الجامعية. تعرّضت آراء طه حسين تلك لكثير من سهام النقد، فهناك من رفضها بحجة أنها احتوت على قدر من التغريب أخرج مصر من انتمائها العربي والإسلامي، وهناك من يعتقد أنها أسرع طريق نحو التبعية الثقافية التي ستؤدي إلى تبعية سياسية واقتصادية، وهناك من رحّب بها بوصفها مدخلا للتحديث، وهناك من تحفظ على بعض ما جاء فيها من أفكار، وتقبّل على مضض بعضها الآخر. وفي خضم الصراع بين الشرق والغرب الذي يزخر به الكتاب، الذي يحتم وجود عقلين فاعلين أو منتجين لثقافتين مختلفتين، هما: العقل الشرقي والعقل الغربي، وضع طه حسين نفسه وأبناء وطنه في خانة العقل الغربي. فالعقل المصري -كما يراه طه حسين- ليس شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، بل هو غربي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، وحسبما يعتقده أن مصر واليونان قد نهلا من مصدر ثقافي واحد، وهذا يعني بالضرورة أن مصر جزء من أوروبا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية، على اختلاف فروعها وألوانها، وألا وجود لفوارق جوهرية بين العقلية الأوروبية والمصرية. وبما أن طه حسين يضع نفسه وبلاده في خانة الأمم الغربية، أين نضع كتاباته ومؤلفاته المتعلقة بالتاريخ والأدب العربي الإسلامي؟ وهل ينطبق عليها وصف «دراسات استشراقية»، وهل نستطيع أن نضيف طه حسين إلى قائمة المستشرقين الذين أبدوا اهتماما بدراسة الشرق وأدبه؟، ولا يخفى علينا كون طه حسين مقلدا لمناهج البحث الأوروبية في دراسته للشعر الجاهلي، والتي صرح اتباعه منهج الشك الديكارتي الفرنسي، فضلا عن تكوين قراءته للشعر الجاهلي المقرونة بقراءة استشراقية سابقة. فكثير من النقاد يعتقدون أن شكوك طه حسين حول الشعر الجاهلي كان منطلقها ومحركها الأساس المستشرق الإنجليزي مرجليوث الذي نشر بحثا موسوما بـ«أصول الشعر الجاهلي».