كنت تمشي مع الملوك... وحينا

في جموع المهمشين.. تجول

غازي القصيبي

يوسف الشيراوي في البحرين هو غازي القصيبي في السعودية، والعكس بالعكس، وربما كان من عجيب الاتفاق أن الرجلين اللذين عاشا في بيئة واحدة، هي البحرين، تولى كلاهما، في زمن متقارب، وزارة للصناعة في بلديهما، وأن قصيبي البحرين وشيراوي السعودية لا فرق كبيرا بينهما! – كلاهما اعتُدّ جلوسه على كرسي الوزارة مشروع نهضة وترقٍّ، فإذا بالغنا في التصور قدرنا أن الوزيرين أهمتهما مسائل «التنمية»، فكان الشيراوي وزيرا لها في بلاده، أما القصيبي فعرفه مواطنوه السعوديون داعية «تنمية»، ومفكرا أنتج صوب عقله وثمرة تفكيره كتبا، وفصولا، ومقالات، لا همّ له فيها إلا «التنمية» وأسئلتها. وليس ذلك كل ما يجمع الوزيرين الصديقين، كان القصيبي أديبا، شاعرا، روائيا، مفكرا، مثقفا محيطا، واسع المعرفة، وكان الشيراوي عالما، أديبا، مفكرا، وكان مثقفا محيطا، واسع المعرفة، قارئا عجيبا للشعر، وكان كلاهما عاشقا لأبي الطيب المتنبي، شاعر العرب الأكبر، ومحفوظ هذا وذاك من شعره كأنما هو ديوان، ولكنه يسعى على قدمين!

كان مقام يوسف الشيراوي عند غازي القصيبي مكينا، نعرف ذلك متى جُلْنا في كتبه ودواوينه، كان لهجا به، محبا، مجلا لثقافته التي تصرف فيها، ما بين العلوم وتاريخها، إلى الأدب العربي القديم والحديث، وتاريخ الحضارة، وكان يختص علم الفلك بقدر كبير من ثقافته المحيطة الواسعة، أهدى إليه القصيبي كتابه «في رأيي المتواضع» (1404=1983)، وكان بين الرجلين ما يجمع بين الصديق وصديقه، نوادر، وطرائف، وقصص لا تنتهي، ينبئنا بها ولع القصيبي بمضاحكته، في قطع فكهة ساخرة اشتقها من اسمه، ودعاها «شيراويات»، فلما مات يوسف بكاه غازي بكاء حارا، وأنشأ فيه فصلين باكيين من النثر، أذاعهما في كتاب باي باي لندن (1428=2007)، وأهدى الكتاب إلى ذكراه، واختصه بقصيدة لامية طال فيها نفسه، أثبتها في ديوانه «حديقة الغروب» (1428=2007)، هي، عندي، من أعظم ما أنشأه شاعر جزائر اللؤلؤ من قصائد الرثاء، وزاد في جمالها أن القصيبي عارض بها قصيدة شاعرهما -وشاعرنا- أبي الطيب المتنبي:

ما لنا كلنا جو يا رسول/‏ أنا أهوى وقلبك المتبول

وكان غازي ويوسف يعشقانها!

تخرج يوسف الشيراوي في الجامعة الأميركية في بيروت عام 1369=1950، واختار، على غير عادة أنداده، الكيمياء تخصصا له. وفي سيرة المؤرخ الكبير كمال الصليبي طائر على سنديانة (1423=2002) كلام عذب جميل عن ذلك الطالب البحراني الذي حدثهم، في السكن الداخلي، عن الروائي الفرنسي ألكسندر دوماس، وكان يلفظه، للثغة فيه، ألكثندر دومث، فلما سأله كمال عن موقع بلاده البحرين، أخذ ورقة ورسم عليها خريطة العالم العربي، حتى إذا بلغ الخليج العربي «وضع قلمه على نقطة في وسط الخليج، إلى أقصى الجانب الغربي منه، قائلا: «البحرين هني»، ثم وضع الورقة التي رسم الخريطة عليها جانبا، وأخذ أخرى رسم عليها خريطة تفصيلية لجزر البحرين بأسمائها، مشددا على موقع بلدة «المحرق»، قائلا: «هني بيت يدي (أي جدي) علي العبيدلي»، بعد ذلك بدأ الشرح المفصل. وما كانت إلا دقائق حتى صارت لنا معرفة دقيقة بكل ما يتعلق بالبحرين، وفي جلسة واحدة مع يوسف الشيراوي، صار لي معرفة كاملة بالبحرين وفهم لهجة أهلها. لكن لم يخطر ببالي، في ذلك اليوم، أن يوسف يصبح لي مع الوقت.. صديقا للعمر».

تكونت ثقافة يوسف الشيراوي في البحرين، وكان لأسرته أثر في هذا التكوين، فوالده كان متعلما مثقفا، وكانت جدته على شيء من التعليم والثقافة، وليس ببعيد أن صلته بشاعر البحرين الكبير إبراهيم العريض، ألقت في قلبه حبا للتاريخ العربي والثقافة العربية، ويكفيه أن قوّى المتنبي هذه الآصرة، متى عرفنا أن للعريض كتابا عن فن شاعر العرب الأكبر، له مقامه عند القراء والباحثين، على أننا نستبين من كلمات القصيبي في تأبينه، أن حظ صديقه من ألوان الثقافة والمعرفة كان كبيرا، ولم يجد غازي كلمة هي أشد وفاء للدرجة التي بلغها غير «مملكة الشيراوي»! «وفي مملكة الشيراوي هناك الكثير من الذخائر.. والكنوز.. وهناك الكثير من العجائب.. والغرائب..(...) في «مملكة الشيراوي» ألف بيت للمتنبي!

يا الله!.. هل يصدق أحد أن «الوزير الكيماوي» يحفظ للمتنبي، وحده، ألف بيت؟! وفي «مملكة الشيراوي» مراصد سحرية تحدق في ملكوت السماوات.. وفي «مملكة الشيراوي» أرى أبطال «الشطرنج».. وأساطين «البروج» وعمالقة «كرة القدم».. وفي «مملكة الشيراوي» معلومات عن كل شيء.. عن كل شيء.. تقريبا.

وليس من شأن هذا الفصل من الكلام أن يذكر بعمل يوسف الشيراوي في مملكة البحرين، قبل الاستقلال وبعده، فذلك شأن مؤرخي الوزارات= إن ما يعنيني منه مثال «الوزير المثقف»، وإن شئنا التدقيق: «المثقف المحيط» -الموسوعي- ما دامت كلمة «مثقف»، اليوم، لا تحقق معناها ذلك الواسع الفسيح، متى أطلقت على هذا وذاك من الناس، حتى لتظن أن كل الناس مثقفون! = فلما قضى «الوزير الكيماوي» ما عهد إليه من أعمال الدولة، واستراح، مددنا البصر إلى «ميراثه»، فإذا هو جزء من تاريخ الثقافة العربية الحديثة، وإلى شيء من هذا المعنى قال صديقه القصيبي في مرثيته البديعة:

اطرح حلة الوزارة! والبس فكرة ما لحسنها تبديل

أنت.. أنت الأستاذ يخلد فينا حين ينسى المبجل.. المسؤول

وأنا لا أقرأ الغيب! ولكنني أحسب أن اسم يوسف الشيراوي سيخلد -بمشيئة الله- في ضمير الثقافة العربية، وأنه لن ينسى، بكتابيه الاتصالات والمواصلات في الحضارة الإسلامية (1412=1992)، وأطلس المتنبي (1424=2004)، وكلا الكتابين يعبر عن ناحية من نواحي الثقافة الواسعة التي عرف بها «الوزير الكيماوي»، وتظهرنا كلمة كمال الصليبي التي مرت بنا من قبل، على أن يوسف لم يحل اختصاصه في الكيمياء والعلوم دون أن يكون محبا للأدب في شبابه، حتى إذا تقدم في العمر كان ذلك المثقف الكبير.