ببساطة شديدة يطلق الكاتب محمد محمد فاروق المصري في كتابه «شقُّ تمرة / نحو ثقافة إدارة الإنفاق وحياة بلا تكلف» الصادر عن دار مدارك للنشر، مقولة تبين الهدف من الكتاب، وهي: «إذا كان الهدف يتحقق بشقّ تمرة فلا داعي لاستهلاك الشق الآخر».ويحذر المصري من أن معظمنا يعيش حياة يغلب عليها الطابع الاستهلاكي، وحتى التسلية أصبحت تمارس من خلال التسوق، معلناً عن انضمامه لقافلة المتصدّين لهذه الموجة، مركزاً على موضوع إدارة التكاليف المادية والتكلّف السلوكي.

الإدارة سلوك إنساني

يتساءل المصري «هل يصلح أن نعرف الإنسان بأنه: مدير كل شيء؟». ويجيب «أعتقد أننا لا نبالغ لو قلنا إن الإدارة هي السلوك الذي يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، وكلما تقدم الإنسان في مجال الإدارة تقدم في حياته. إن المعنى اللغوي لأصل كلمة الإدارة يؤكد لنا أنها سلوك بشري فطري، إذ يعود أصل الكلمة إلى فعل «دار»، والذي يعني: طاف حول الشيء، فالإنسان عندما يهتم بشيء ما فإنه يطوف حوله يراقبه ويتفقده. إن المقصد الذي نريده من كون الإدارة سلوكاً فطرياً هو أن الله تعالى قد جهّز الإنسان بمجموعة من الملكات والصفات تجعله قادراً على العيش بصورة تليق به كإنسان، فإن هو قام بتطوير هذه الملكات والصفات وسار معها استطاع أن ينعم بهذه الحياة ومعه كل سكان هذا الكوكب، أما إن تجاهلها وسار في الطريق المعاكس فإن الوضع سيصبح كارثياً. وفصلت الثقافة الإسلامية الإدارة السلوكية ووضعت قواعد إدارة الأخلاق والعواطف وحتى الحركات العابرة، وجعلتها لا تقل أهمية عن الإدارة التشغيلية، وذلك مثل:

01 - إدارة الكلام،

02 - إدارة العاطفة،

03 - إدارة العبادة

04 - إدارة الحركة

05 - إدارة العقوبة.

إن الإدارة بمفهومها الواسع مقياس لإنسانية الإنسان، بمعنى أن الإنسان يزداد إنسانية كلما أدار سلوكه وأنشطته مهما كانت بسيطة أو قصيرة، وبالمقابل فإنه يتراجع في ميدان الإنسانية تخلى عن ضوابط الإدارة وقيودها.

وبالتالي فالإدراة: سلوك إنساني يعمل على وضع ضوابط لأي نشاط سواء كان نفسياً أو جسدياً أو فكرياً بحيث يتم الاستفادة من إيجابياته وتنميتها، والحد من سلبياته قدر الإمكان.

الإنفاق وعناوينه

يرتبط الإنفاق في علم الاقتصاد بأربعة قطاعات:

01 - القطاع العائلي

وهم المستهلكون الذين يقومون بشراء السلع والخدمات المختلفة من القطاعات الأخرى. وفي نفس الوقت نفسه، فإن القطاع العائلي هو القطاع الذي يمتلك عناصر الإنتاج المختلفة.

يحصل القطاع العائلي على الدخل الذي يمكّنه من شراء السلع والخدمات عن طريق مساهمتهم بعناصر الإنتاج (العمل، الأرض، رأس المال، والتنظيم) في العملية الإنتاجية. ويسمى الإنفاق الذي يقوم به القطاع العائلي بالإنفاق الاستهلاكي.

02 - قطاع الأعمال أو الإنتاج

يتألف هذا القطاع من المنتجين الذين يقومون بعملية إنتاج السلع والخدمات المختلفة، وذلك عن طريق استخدام عناصر الإنتاج المتوفرة والتي يتم الحصول عليها من القطاع العائلي. ونظير استخدام هذه العناصر، يقوم قطاع الإنتاج بدفع أجور ورواتب وفوائد إلى القطاع العائلي. ويسمى الإنفاق الذي يقوم به هذا القطاع بالإنفاق الاستثماري.

03 - القطاع الحكومي

يقوم القطاع الحكومي بتوفير المشاريع والمرافق الأساسية التي لا يوفرها قطاع الأعمال، وكذلك دفع مخصصات مالية للعجزة وكبار السن (أو ما يسمى بالمدفوعات التحويلية)، بالإضافة إلى شراء السلع والخدمات من قطاع الأعمال. ويسمى الإنفاق الذي يقوم به القطاع الحكومي بالإنفاق الحكومي الاستهلاكي؟

04 - القطاع الخارجي

يقوم الاقتصاد المحلي ببيع بعض السلع والخدمات التي تم إنتاجها محلياً إلى دول أخرى على هيئة صادرات، ويقوم في نفس الوقت نفسه بشراء بعض السلع والخدمات من دول أخرى في صورة واردات. ويوضح صافي الصادرات الفرق بين قيمة الصادرات وقيمة الواردات.

إدارة الإنفاق

الإنفاق من أكثر التصرفات بحاجة إلى إدارة حقيقية بل وإدارة مخاطر أيضاً. هناك تحذيرات كثيرة من سوء الإنفاق، وتركز الأمم اليوم على موضوع إدارة الإنفاق والتكاليف والاستهلاك بصورة كبيرة جداً، والدول المتقدمة هي أكثر اهتماماً بإدارة الإنفاق المادي من الدول المتخلفة، وكأن الهدر سمة مرتبطة بالتخلف، بينما ضبط الإنفاق وترشيد الاستهلاك سمة مرتبطة بالمؤمن أولاً وبالإنسان المتقدم ثانياً. ويقصد بإدارة الإنفاق وضع ضوابط لما نقوم بتقديمه من أشياء مادية أو معنوية بحيث يتم الاستفادة من إيجابياتها وتنميتها، والحد من سلبياتها قدر الإمكان.

معيار الإنفاق

لا يمكننا وضع قيمة عددية نقول عندها إنه إذا تجاوزنا هذه القيمة فهذا يعني أن الإنفاق سيئ، بينما لو ظل الإنفاق دون هذه القيمة فهذا يعني أن الإنفاق جيد، فكثيراً ما يتجاوز الإنفاق قيماً كبيرة مقابل بصيص أمل، مثلما ندفع الملايين لإنقاذ حياة مريض مع أن نسبة نجاح العملية قد تكون ضئيلة جداً.

أيضاً يخضع الإنفاق للظروف المحيطة، فلا يمكن جعل ما ينفقه الشخص في حالة الحرب أو المجاعة معياراً نقيس عليه. ومع كل ذلك لا يمكننا أن نتحدث عن مفهوم «إدارة إنفاق» دون وضع معيار نحتكم إليه، ليكون للحديث معنى يمكن تطبيقه في الواقع العملي.

إذاً متى نُسمي هذا النوع من الإنفاق هدراً ومتى نسميه متّزناً؟ ما المعيار الذي يمكن أن نضعه حتى نحكم على حالة إنفاق معينة أنها مُدارة بشكل صحيح أو بشكل خاطئ؟

أعتقد أن الإنفاق السليم لا بد أن يخضع للمعيارين التاليين:

- الضرر المترتب على الإنفاق: ثمة صور كثيرة للإنفاق تبدو أنها مفيدة، أو أنها تخدم مصلحة ما، ولكن عند إعادة قراءتها سنكتشف حجم الضرر المترتب عليها، مثل التساهل في استهلاك المياه أو استعمال الأجهزة الذكية.

- الدافع الذي يقف وراء الإنفاق: إن الدافع وراء الإنفاق يحدد بشكل واضح جداً هل ما نقوم به هو سلوك إيجابي أو سلبي، فالإنفاق الذي يصدر بدافع المباهاة والمنافسة لا يمكن أن يوصف بأنه إيجابي.

لماذا كل هذه الضوضاء

غالباً لا نرى القبح لاقتصاد الاستهلاك، ولذلك لا نرى أن هناك ضرورة لفعل شيء حيال ذلك.

في مجتمعنا العربي وعلى الرغم من أن الحديث عن الهدر وإدارة الإنفاق يتم بصوت منخفض فإنه ثمة من ينزعج منه ويتساءل: لماذا كل هذه الضوضاء؟!

لا يمكن لنا أن ندرك حاجتنا الماسة لتطبيق مفهوم إدارة الإنفاق إلا إذا تعرفنا أكثر على النتائج المترتبة عند فقدان هذا المفهوم أو عند تطبيقه بصورة سيئة. سنستعرض فيما يلي أربعة مجالات تبين لنا انعكاسات غياب مفهوم « إدارة الإنفاق» وآثاره الكارثية:

المجال الأول: الطاقة

إن خسارة المال والطاقة الناجمة عن تشغيل مصباح كهربائي خلال وقت العمل أو الدراسة – مثلاً – يقابله حصول منفعة للشخص، إذ دون إنارة يصبح النشاط الإنساني شاقاً وقد يتوقف كلياً، لذلك طالما نتحدث عن تشغيل مصباح مناسب - من حيث الشدة والنوعية - فلا يمكن اعتبار استهلاك الطاقة في هذه الحالة هدراً؛ وذلك لأن المنفعة لا يمكن الوصول إليها دون هذا الاستهلاك، أما عندما ينتهي الشخص من عمله ويخرج من غرفته أو مكتبه فهو أمام خيارين: إما أن يُبقي المصباح مضاءً وتستمر خسارة الطاقة دون مقابل، أو أن يقوم بإطفاء المصباح ليحافظ على نقوده أولاً ثم يحافظ على الثروة العامة ثانياً، وهذه هي إحدى صور إدارة الاستهلاك الفردي للكهرباء.

المجال الثاني: الغذاء

ذكرت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة أن هناك قُرابة 800 مليون شخص يعانون الجوع في العالم، ولا تقل ما علاقة الجوع بالهدر؟! لأن سكان الأرض يهدرون 1.3 مليار طن من الأغذية في السنة، وهو ربما يكفي لإطعام ضعف عدد جياع العالم.

لو قسّمنا متوسط الهدر السنوي للفرد في منطقتنا والبالغ 250 كيلوجراماً على عدد أيام السنة سنجد أن معدل الهدر اليومي يساوي تقريباً 700جرام وهي كمية قليلة نسبياً قد لا يهتم بها كثيرٌ من الناس، بمعنى أن رمي 4 ثمار من التفاح أو الكوسا مع قطعتين خبز - تم تخزينها بصورة سيئة حتى تلفتْ - هو جزء من ذلك الرقم الكبير؛ وبالتالي فهو مساهمة في هدر الغذاء الذي ربما ينقذ ملايين البشر. وفي كل مرة يحصل فيها هدر غذائي، فيجب أن نأخذ بالحسبان جميع الموارد الطبيعية المستخدمة لنمو هذا الغذاء وتجهيزه ونقله وتسويقه التي هُدرت أيضاً ولم تتم الاستفادة منها.

المجال الثالث: الأزياء

إن طرق العرض في المحلات والأسواق، وتقديم منتجات وخيارات متعددة بالإضافة إلى مواسم التخفيضات تدفع الناس لشراء حاجيات ليسوا بحاجة إليها، فالمهم لدى شريحة كبيرة من المستهلكين هو اللحاق بركب الموضة، ولكن هل نفكر بالعواقب؟!

المجال الرابع: الأجهزة الذكية

إن ميل الإنسان نحو الاستزادة من كل شيء، يوقعه في عواقب الهدر، وهكذا تسيطر «ثقافة الهدر» بسهولة على المجتمع تحت غطاء « زيادة الخير خير»، وشيئاً فشيئاً يتسرّب الهدر نحو كل صغيرة وكبيرة في السلوك البشري، وكثيراً ما يصيب حيّزاً خطيراً مثل الوقت. فبعد الثورة الهائلة في عالم الاتصالات، وما قدمته الهواتف الذكية من خدمات ومميزات وبرامج جعلت الإنسان يتعلق بها ويحاول الاستزادة من فوائدها، حتى صار يعانقها ولا يفارقها عند سريره بل وحتى لو دخل الحمام، بدأت تظهر لدينا سلبيات هذا السلوك، الأمر الذي تطلب إدارة صارمة لطريقة تعاملنا مع الأجهزة الذكية.

المفقود الطبيعي

ربما يقول البعض بأنه عملياً لا يمكننا الحديث عن ظاهرة اختفاء الهدر من حياتنا تماماً، إذ يبدو ذلك أشبه ما يكون بالموضوع النظري، فالقضاء على الهدر نهائياً ليس سوى حلم لا يتحقق بسبب طبيعة الحياة التي نعيشها.

بمعنى آخر هناك نسبة من الهدر مفروضة علينا؛ لا يمكن التملّص منها مهما حاولنا، فعلى سبيل المثال لا يمكن الاستغناء عن أكياس النايلون أو شمّاعات الثياب المعدنية، فهذه الأشياء لها قيمة وربما قيمة كبيرة خاصة لو نظرنا إلى حجم الاستهلاك، ومع ذلك فإنها ترمى بعد أول استخدام أو ثاني استخدام على أبعد تقدير.

وبالتالي فإنه لا تعايش مع الهدر، بل تبدو العلاقة بين الإنسان الواعي والهدر أشبه ما تكون بصراع من أجل البقاء.

جذور ثقافة الهدر

- كيف ينزلق الإنسان في مستنقع الهدر ما دامت الإدارة صفة ملازمة له؟

- من أين أتت إلينا ثقافة الهدر، ما دام أن الإسلام يحاربها؟

- لماذا أصبح تداول أفكار التوفير والاقتصاد مثل: (مد رجليك على قد بساطك) و(خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود) دليلاً على بخل الإنسان وشحه؟

- لماذا لا تنتشر مشاريع وأفكار مكافحة الهدر التي يقدمها المهتمون بهذا المجال بصورة واسعة؟

لو تناولنا موضوع الاستهلاك سنجد أن الغربيين – كونهم أصحاب الحضارة الأكثر تأثيراً اليوم – يسلكون معه أحد طريقين:

الطريق الأول والذي يمكن تسميته بثقافة الوجبات السريعة – عادة ما ينسب إلى الثقافة الأميركية - يتم التركيز فيه فقط على إشباع النفس بكل ما تحتاج إليه بغض النظر عن الآثار المترتبة على ذلك، ومن أهم قواعد هذه الطريق أن يعيش الإنسان اللحظة التي هو فيها دون أن يفكر بشيء آخر، ولقد تمتعت هذه الثقافة بقوة كافية استطاعت التأثير على كثير من مناطق العالم لا سيما بفعل سياسة العولمة.

أما الطريق الثاني - وهو السائد في أوروبا قبل سيطرة ثقافة العولمة - فإنه يعتمد على ضبط الشراء والإنفاق، (حيث أوجد التوافق بين الإصلاح البروتستانتي وروح الرأسمالية الحديثة مناخاً مناسباً لتطور الرأسمالية عبر بث قيم الزهد الدنيوية، وهو ما يفسر أن الأشخاص المطبوعين ثقافياً بالبروتستانتية هم من شكلوا في البدء طبقة المقاولين الجدد، فكانت الثروة تتراكم في يد الرأسمالي دون أن يتمتع بها).

بالنظرة إلى واقع الكثير من البلاد نجد أن المفهوم الأميركي للاستهلاك طغى على نظيره الأوروبي، فانتقل بشكل سريع وفوري ليغزو العالم.

إن الهدر وتبديد الثروة من رواسب التخلف وغياب الوعي، وهو من نتائج الجهل بقيمة الأشياء وأهميتها مهما كانت صغيرة، كما أنه ناجم عن التفريط فيما نملكه بدافع التسلية والترفيه.

إن قراءة الواقع العربي بصورة نقدية تلفت أنظارنا إلى أنه ثمة جذور عديدة ترتبط بها ثقافة الهدر بشكل قوي، ويمكن وصفها بالعناوين التالية:

01 - اشتهيت وأعجبني.

02 - الإكثار هو المقياس.

03 - التجميل بلا وظيفة.

04 - القلق.

05 - إهمال الأشياء الصغيرة.

06 - العولمة الأميركية.

07 - التطلع إلى غيرنا.

امتصاص الهدر

معظم القمصان الرجالية ذات الأكمام الطويلة تهترئ عند المرفق وعند نهاية الأكمام قبل أن تهترئ في الأجزاء الأخرى، بعض الأشخاص يحاولون ترقيع أماكن الاهتراء، ولكن في بعض الحالات لا يجدي الترقيع، لذا يقومون برمي القميص لأنه لم يعد يصلح.

بالنسبة لي أرى هذا الإجراء بمثابة دفن للقميص وهو حي، إذ يمكننا بحركة بسيطة إنعاش القميص من جديد وإعطاؤه عمراً آخر، وذلك إذا تم قص الكم بصورة نتخلص فيها من الجزء المهترئ، ونحول القميص إلى قميص بنصف كم، وحتى في حال أحببنا تقديمه لشخص محتاج فإن عملية الإعطاء وقتها ستكون أكثر احتراماً وتقديراً من تقديم قميص مهترء مهترئ!

في كل مرة أتحدث فيها عن مكافحة الهدر والتصدي له يعتب عليّ كثير من الناس ويقولون بأني وصفت المرض ولم أصف العلاج.

وإيجاد حل سريع أو وصفة سهلة لتغيير ثقافة ما شيء أشبه ما يكون بالسحر الخيالي، إذ لا بد للتغيير الثقافي من معادلة: النَّفَس الطويل بالتوعية الثقافية.

لذلك تنطلق ثقافة امتصاص الهدر من تسليط الضوء على جوانب ضياع الثروة، وإعادة صلة الناس بالجوانب الإيجابية في ثقافتهم، بالإضافة إلى قطف صور ثقافية من مجتمعات أخرى.

أما من الناحية العملية والسلوكية فإن ثقافة امتصاص الهدر تقوم على تشجيع ونشر كل صورة أو سلوك أو فكرة تهرب من الهدر ولا تؤمن به على أنه:

- سبيل للتعبير عن السعادة

- أو طريقة لتكريم الأشخاص

- أو ظاهرة طبيعية لا يمكن مقاومتها