في الأول من فبراير من عام 2006 التقى ألكسندر ليتفينينكو - ضابط المخابرات الروسي المنشق - اثنين من زملائه السابقين في الكي جي بي في فندق ميلينيوم وسط لندن، بعد اللقاء بساعات أحس ليتفينينكو بتوعك وقيء وأُخذ إلى المستشفى في تلك الليلة ليكتشف أنه تم تسميمه بمادة وضعت في كوب الشاي الذي ارتشفه عندما كان بصحبتهما، وبعد معاناة استمرت لثلاثة أسابيع توفي ألكسندر - رحمه الله ـ وقد تم تحديد مادة البولونيوم- 210 المشعة سبباً للوفاة، حيث وُجد أثرها في جسمه وبيته وسيارته وجميع الأماكن التي قصدها بعد تناوله ذلك الكوب.

عند احتضاره أخبر ألكسندر والده بأنه أسلم منذ مدة، وأوصى بأن يشيع كمسلم، وأن يُدفن في مقابر المسلمين، وقد تم له ذلك، وصلي عليه بأحد جوامع لندن. وقد اتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً بالوقوف خلف اغتياله.

كما أن موت الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات رحمه الله في 2004، يشتبه بأنه كان بسبب نفس المادة، حيث وجدت آثارها في ملابسه.

وهنا لن أتحدث عن مقتل ليتفينينكو أو ياسر عرفات من ناحية سياسية، وإنما سأتناول البولونيوم -210 من ناحية علمية. البولونيوم عنصر مشع موجود بالطبيعة، لكنه نادر، اكتشفته ماري كوري مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما كانت في باريس تحضر الدكتوراه، وسمّته بولونيوم نسبة إلى موطنها الأصلي بولندا، الذي لم يكن يسمح للنساء بمواصلة تعليمهن الجامعي آنذاك، فانتقلت إلى فرنسا لتكمل تعليمها، نالت كوري على إثر هذا الاكتشاف جائزة نوبل في الكيمياء عام 1911، وهي الجائزة الثانية لها، إذ سبق أن حازت جائزة نوبل في الفيزياء عام 1903 مشاركة مع زوجها بيير وعالم آخر اسمه هنري بيكريل نظير اكتشافاتهم ودراساتهم لظاهرة النشاط الإشعاعي. وكأي مادة مشعة، للبولونيوم عمر نصف يبلغ 138 يوما، أي خلال هذه المدة، ستتحلل نصف كمية البولونيوم التي لديك، وبعد 138 يوما أخرى، ستتحلل نصف الكمية المتبقية وهكذا، هذا التحلل يصاحبه إطلاق لإشعاعات ألفا التي يصعب رصدها لقصر مداها، حيث إنها لا تستطيع اختراق ورقة عادية فضلا عن الملابس أو الحقائب، وإن دخلت الجسم لا يمكن رصدها إلا عن طريق أخذ عينة من البول، وبالتالي لا يمكن أن تكتشفها أجهزة الرصد الإشعاعي الموجودة في المطارات والمنافذ الحدودية، لذلك يسهل حملها والانتقال بها، ولا تحتاج إلى كميات كبيرة، فميكروجرام واحد، أي جزء من مليون جزء من الجرام، تعتبر جرعة قاتلة، ولقد أعطي ألكسندر ليتفينينكو 10 ميكروجرامات، وهذه عشرة أضعاف الجرعة القاتلة.

يعد البولونيوم أكثر المواد سمية على وجه الأرض، يكفي أن تعلم أنه أكثر سمية من السيانيد بآلاف المرات، ويقدر بعض العلماء أن جراما واحدا منه قد يودي بحياة 50 مليون شخص، وخطره يكمن في إشعاعات ألفا التي يطلقها، ولكن طالما بقي خارج الجسم فلا خوف منه، أما إذا دخله فهو مميت، حيث يتراكم في الكبد والكلى وأعضاء الجسم الأخرى، وتعمل إشعاعات ألفا التي يطلقها على تدمير الخلايا وحمضها النووي.

مشكلة الموت بالمواد المشعة شديدة السمية كالبولونيوم أنه يحدث ببطء، وتصاحبه أعراض مؤلمة، تقريباً كل أعراض الأمراض المعروفة من غثيان وقيء وإسهال وصداع، وآلام بالمفاصل والعظام، وفقدان للشعر والشهية، وتدمير للنخاع العظمي، وتقليص للكريات البيضاء، والقائمة تطول. وقد يكون المفعول البطيء له ميزة من زاوية أخرى، ففي حال العلم بابتلاع البولونيوم بوقت مبكر، قد يساعد غسيل المعدة في علاجه وإخراجه من الجسم قبل تمكنه منه.

تشير بعض المراجع إلى أن أول ضحايا البولونيوم قد تكون ارين جوليت كوري، ابنة ماري كوري، مكتشفة البولونيوم! وهي عالمة كأمها حازت على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1935، حيث انفجرت كبسولة مليئة بالبولونيوم في مختبرها وتعرضت للبولونيوم وماتت باللوكيميا بعد هذه الحادثة بعشر سنوات، ويعتقد أن البولونيوم هو المسؤول عن إصابتها بالسرطان. على الرغم من ذلك، فإن البولونيوم ليس سلبيا وبشعا كما يظهر حتى الآن، فله جانب آخر مشرق ومفيد، حيث إنه يستخدم كمصدر للطاقة في الأقمار الصناعية، ولكن بداية استخدامه كانت لأغراض عسكرية، إذ إنه يعمل كقادح للقنبلة النووية، وقد تم استبداله لاحقاً بمواد أكثر فاعلية منه، وتم إيقاف تصنيعه في معظم الدول.

وتحضير البولونيوم-210 النقي صعب ومكلف، فمن طن من اليورانيوم يمكن استخراج 100 ميكروجرام فقط من البولونيوم، ويتم تحضيره غالباً في المفاعلات النووية، وهذا ما دعا الشرطة البريطانية لاتهام الحكومة الروسية بمقتل ليتفينينكو لوجود مؤشرات كيميائية تدل على أن البولونيوم الذي سمم به ليتفينينكو أنتج في مفاعلات روسية. لهذه الأسباب تكلفة البولونيوم غالية جداً فقد يصل سعر الميكروجرام الواحد منه في السوق السوداء لملايين الدولارات.

أخيراً، تشير بعض الدراسات العلمية الحديثة المنشورة إلى احتواء تبغ السجائر على البولونيوم-210، ولكن بكميات ضئيلة جداً جداً، وقد يكون مسؤولا عن بعض الوفيات.
@SamiiHamad