مؤتمر الوسطية والاعتدال، أثبت كذلك أن الاعتدال أمر يرتبط بالفكر كما يرتبط بالمناهج الخاصة بالتغيير، ويمثل التزاما بالمنهج السلمي المتدرج، بما يجعل الوسطية منهجا معتدلا، لا يميل إلى الإفراط أو التفريط، وأن فهم الاعتدال وفهم منهج التغيير يمثلان نقطة مهمة في فهم الوسطية الحضارية؛ وهذا يؤكد على ضرورة أن يُفهم الاعتدال على أنه نوع من القدرة على التعامل مع الواقع الراهن والتكيف والتعامل معه، ويعني هذا القدرة على التعامل مع الأوضاع الراهنة من أجل تغييرها من داخلها، وهو ما يختلف عن المنهج القائم على الإفراط، والذي يرفض التعامل مع الواقع الراهن، ويرفض التكيف معه، وبالتالي يعمل على تغييره من الخارج؛ فالاعتدال كمنهج تغيير يعني القدرة على التعامل مع الواقع لتغييره، وليس القدرة على التكيف مع الواقع دون تغيير، ولن يكون كاملاً شاملاً دون أن نخوض المعتركات الفكرية بين جميع فئات المجتمع، لأن الكون لا يتصور انتظامه إلا بالاعتدال، إذ هو مفهوم كلي، وليس مزاجا شخصيا أو شعارا بلا مضمون، أو دعوى بلا دليل، وما من أمة طبقته إلا ونجحت، والعكس صحيح، وصوره الحياتية لا نهاية لها، ومن أهمها الاعتدال في الحرية؛ فلا كبت ولا فوضى، والاعتدال في العولمة، فلا انغلاق، ولا ذوبان.
أختم المقال، بالإعلان التاريخي الذي تم في ختام مؤتمر الرابطة، لـ(وثيقة مكة المكرمة)، لأؤكد على أنها مستفادة ومعتمدة على شقيقتها (وثيقة المدينة المنورة)، تلك الصحيفة التي تعد أول دستور مدني في تاريخ البشرية، قررها سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أول وصوله للمدينة المنورة، عام 623م، وأقر من أجل إنجاحها (59) بندا، تعد من مفاخر الحضارة الإسلامية، وعلينا تجاه (وثيقة مكة المكرمة) أن نتحمل كأفراد ومجموعات مسؤولية القيام بشرف خدمة هذه الوثيقة الأمل، وتحويلها لمبادرات، وبرامج عملية، بل وأن نقوم جميعا بتسيير واقعنا الحياتي، وفق بنودها الـ (29)، ولا سيما وقد ثبت لكل ذي فكر وقلب سليم أنها تضمنت كل ما يكفل تحقيق صالح البشرية، ويبني جسور المحبة والوئام بين الأنام.