عايدت مكة المكرمة، العالم كله، بعيديات خمس متنوعة ـ مؤتمر الوسطية والاعتدال، إعلان وثيقة مكة المكرمة، مؤتمر القمة الخليجية، مؤتمر القمة العربية، مؤتمر القمة الإسلامية ـ، وهنا سأقصر مقالي، على المعايدتين الأوليين، وذلك بحكم تخصصي؛ فمؤتمر الوسطية والاعتدال، الذي شرفه بالرعاية، خادم الحرمين الشريفين، وتوّجه بالحضور سمو مستشار خادم الحرمين، أمير منطقة مكة المكرمة ـ حفظهما الله ـ، ونجحت رابطة العالم الإسلامي ومعالي أمينها العام في تنظيمه، أثبت أن الوسطية لن تتحقق وتبرز صفاتها الخيرة إلا وفق منهج معرفي دقيق، قائم على ربط العلم بمقاصد التوحيد الهادفة إلى عمارة الكون وتسخيره، والقيام بأداء أمانة الاستخلاف فيه، وإحياء المعاني الربانية في النفوس، وأنه لا بد من النزول للميدان، وإبصار الواقع الذي عليه الناس، ومعرفة مشكلاتهم ومعاناتهم واستطاعتهم وأعرافهم وعاداتهم، وما يعرض لهم من نوازل وقضايا، وترسيخ الوعي التام بفقه السنن في الأنفس والآفاق، ولا بد أيضا من مراجعة المناهج الدراسية، وحذف كل ما يتعلق بأفكار الإرهاب والتكفير، وتخصيص برامج إعلامية مرئية ومسموعة لبيان حقيقة الإسلام ونبذه للغلو والتطرف، وإصدار الكتيبات، وإقامة المؤتمرات والندوات التي تبحث هذه الظواهر لتصحيح فكر الضالين، والأخذ بأيديهم إلى منهج الاعتدال؛ الذي يعني التوسط والاقتصاد في الأمور، والتوازن والاستقامة والاستواء في التفكير والعمل والسلوك، وضده، الغلو والعدوان والشطط والطغيان والانحراف والتنطع والتشدد.

مؤتمر الوسطية والاعتدال، أثبت كذلك أن الاعتدال أمر يرتبط بالفكر كما يرتبط بالمناهج الخاصة بالتغيير، ويمثل التزاما بالمنهج السلمي المتدرج، بما يجعل الوسطية منهجا معتدلا، لا يميل إلى الإفراط أو التفريط، وأن فهم الاعتدال وفهم منهج التغيير يمثلان نقطة مهمة في فهم الوسطية الحضارية؛ وهذا يؤكد على ضرورة أن يُفهم الاعتدال على أنه نوع من القدرة على التعامل مع الواقع الراهن والتكيف والتعامل معه، ويعني هذا القدرة على التعامل مع الأوضاع الراهنة من أجل تغييرها من داخلها، وهو ما يختلف عن المنهج القائم على الإفراط، والذي يرفض التعامل مع الواقع الراهن، ويرفض التكيف معه، وبالتالي يعمل على تغييره من الخارج؛ فالاعتدال كمنهج تغيير يعني القدرة على التعامل مع الواقع لتغييره، وليس القدرة على التكيف مع الواقع دون تغيير، ولن يكون كاملاً شاملاً دون أن نخوض المعتركات الفكرية بين جميع فئات المجتمع، لأن الكون لا يتصور انتظامه إلا بالاعتدال، إذ هو مفهوم كلي، وليس مزاجا شخصيا أو شعارا بلا مضمون، أو دعوى بلا دليل، وما من أمة طبقته إلا ونجحت، والعكس صحيح، وصوره الحياتية لا نهاية لها، ومن أهمها الاعتدال في الحرية؛ فلا كبت ولا فوضى، والاعتدال في العولمة، فلا انغلاق، ولا ذوبان.

أختم المقال، بالإعلان التاريخي الذي تم في ختام مؤتمر الرابطة، لـ(وثيقة مكة المكرمة)، لأؤكد على أنها مستفادة ومعتمدة على شقيقتها (وثيقة المدينة المنورة)، تلك الصحيفة التي تعد أول دستور مدني في تاريخ البشرية، قررها سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أول وصوله للمدينة المنورة، عام 623م، وأقر من أجل إنجاحها (59) بندا، تعد من مفاخر الحضارة الإسلامية، وعلينا تجاه (وثيقة مكة المكرمة) أن نتحمل كأفراد ومجموعات مسؤولية القيام بشرف خدمة هذه الوثيقة الأمل، وتحويلها لمبادرات، وبرامج عملية، بل وأن نقوم جميعا بتسيير واقعنا الحياتي، وفق بنودها الـ (29)، ولا سيما وقد ثبت لكل ذي فكر وقلب سليم أنها تضمنت كل ما يكفل تحقيق صالح البشرية، ويبني جسور المحبة والوئام بين الأنام.