تتميز أي دعوة أو نهضة جديدة في تاريخ المجتمعات البشرية كشرط لنجاح حركتها واستمرارية بقائها أن تقبل بالتعددية الفكرية والثقافية والعقائدية مع الآخرين وعدم العدائية لهم، وتطرح تلك الدعوة الجديدة نفسها كخيار من متعدد من بين الخيارات أمام المجتمع دون فرض القوة أو الجبرية عليه لاختيار المنهج الجديد أو أن تستخدم الممارسات القمعية أو العنف بكافة أنواعه وأشكاله لترهيب الناس أو إكراههم نحو مجموعة القيم والمعتقدات والأفكار الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية. ولو قارنا بين نموذجين في حركة بناء وإصلاح المجتمعات الإنسانية لاستطعنا فهم المعادلة الصحيحة في إدارة العلاقة بين السائد والمتعارف عليه في عُرف الناس وبين المستحدثات والمتغيرات الجديدة والمطروحة لهم. فالنموذج الأول المتمثل في حركة دعوة الأنبياء والرسل والأوصياء والمصلحين في مجتمعاتهم نحو الإيمان بالله والالتزام بتعليماته وشريعته والقيم الفطرية، حيث كانت هذه الدعوات تطرح نفسها تحت شعار السلمية وقبول التعددية والاختيار وعدم العدائية للآخر والتعايش معه ولا تسعى إلى السيطرة على مُقدرات المجتمع وخيراته. والنموذج الثاني هو مفهوم الاستعمار بكافة أشكاله وأنواعه سواءً كان عسكريا أو فكريا أو ثقافيا، فالاستعمار حركة تدعو إلى فرض قيمه وأفكاره ومعتقداته على المجتمع من أجل السيطرة والهيمنة عليه بفرض القوة ونفي جميع الخيارات أمام الناس واستذلالهم واستعبادهم وسلب مكتسباتهم وتوجيههم نحو النمطية والأحادية، وقد يكون الاستعمار خارجيا أو من داخل المجتمع نفسه، لذلك نجد أنه مهما طال زمن الاستعمار والمستعمر لمجتمع ما سواء في سلطته العسكرية أو الفكرية فإنه سوف يزول ويرحل عنه ويكون ماضيا يُعطي للمجتمع درسا حول قانون خيار التعددية وعدم العدائية للآخر. وها هو نموذج حركة الصحوة الإسلامية التي خرجت علينا في الثمانينات من القرن الماضي، واجتاحت بعض المجتمعات الإسلامية في أشكال متعددة وهويات مختلفة ومرجعيات دينية متباينة تختلف في أشكالها وشخوصها وتتحد في مضامينها وجوهرها، وقدمت لنا تلك الصحوة نفسها على أنها المُخلص للمجتمعات من تخلفها وفقرها وظلم حكامها وعودة الإسلام المحمدي الصحيح والخلافة الراشدة والإمامة، ولكن هذه الصحوة وقادتها وأعضاؤها خالفت قوانين المجتمعات وتطورها ونموها، حيث إنها اتسمت بالأحادية الفكرية وعدم قبول التعددية وبالعدائية للآخر وعدم التعايش معه وبفرض القوة والتشدد في منهجها ودعوتها وإصلاحها، واعتبرت أن كل من يخالف مسيرة أفكارها عدوا لها، وأنها تملك الحقيقة المطلقة لنفسها، وأن كل ما عداها باطل وشر خارج عن دائرة الإسلام الصحيح، واستخدمت كل أساليب التنفير والمنع والإقصاء لكل مخالف لها، وهي تستبطن رغبتها في الاستحواذ والسيطرة على السلطة والمال. لقد استغلت الصحوات الإسلامية في المجتمعات العربية أو الإسلامية كل حسب نشأتها وظروفها ودوافعها وأهدافها نقطة الضعف لدى جمهورها لاستنفارهم وتأييدهم وبث روح الحماس فيهم وحشدهم كأدوات لجمهور الصحوة أمام الظهور والبروز والقوة في دُولهم، فكانت بعض الصحوات تستغل الخلاف المذهبي السني الشيعي وقودا لحركة انطلاقها أو الصراع السياسي بين الحكام ومجتمعاتهم في تطبيق الشريعة الإسلامية أو في تنوع الأديان والتيارات الفكرية المعاصرة كالليبرالية أو الحداثة أو العلمانية أو العولمة في خطرها على الإسلام أو في انتشار الفنون والثقافة كأدوات لهو وعبث في تمييع شخصية المجتمع الإسلامي. وإذا كانت تلك الصحوات الإسلامية قد حققت شيئا من الإنجازات والنجاحات والقبول لدى شريحة من مجتمعاتها العربية أو الإسلامية لفترة من الزمن فلأننا نحن جزء من السبب وراء ذلك النجاح، فنحن مجتمعات وبيئات ليس لديها مقومات المناعة الفكرية والوعي الكافي والثقافة المتنوعة والعلم النافع وأدوات التفكير والتحليل والاستقراء وقيم الإسلام وثوابته السليمة، لذلك يسهل على أي مُسمى صحوة أن تكون سيلا جارفا يسير بنا نحو المجهول والتحكم بنا في حركته وعبوره، فلا يكون أمامنا إلا خيار واحد وهو النجاة من الغرق والسير معه أو الوقوف في وجهه وتحمل عنفه وتدميره من خلال القوة التي اكتسبها من صمتنا وضعفنا وجهلنا. أخيرا، سوف ننقسم في وصفِ تلك الصحوات الإسلامية بين مرضها أو موتها أو إعادة تموضعها للبحث عن شعار تحاول الانطلاق به مجددا باحثة عن أي خلل اجتماعي أو ثقافي أوديني أو سياسي لاستغلاله والعودة بثوب جديد، والتاريخ كله شواهد على العديد من الصحوات الإسلامية التي اتخذت من شعار الإسلام راية لتحقيق مصالحها الفئوية والحزبية، وبعد انكشافها وإفلاسها تزول وتندثر وتُصبح تاريخا أسود في هويتنا. ويبقى السؤال المهم كيف نحمي أنفسنا ووطننا من صحوات إسلامية قادمة؟ تستغل عواطفنا وتلعب على وتر انقسامنا الطائفي والمذهبي، وتُعيد تاريخ الماضي حاضرا أمامنا من أجل أن نكون فيه أدوات صراع نحو صحوة إسلامية جديدة!.