مثلي مثل كثير من السعوديين، لا نستطيع الصيام خارج المملكة.

الجو العام بالمملكة في رمضان، يمنحك الشعور بالروحانية والطمأنينة، وذلك نتيجة التقارب الاجتماعي بين الناس في هذا الشهر الكريم، بكل أطيافهم ومستوياتهم. وأيضا الرغبة في كبح جماح نظم الحياة العاصفة، خلال إقامة الصلاة والشعائر الدينية بهدوء وطمأنينة في المساجد المعتادة والمألوفة.

ولكن، في هذا العام -وبعد تواصل من بعض الأصدقاء- فقد رافقتهم لقضاء الأسبوع الثاني من رمضان في الإمارات، وتحديدا في إمارتي أبوظبي ورأس الخيمة.

والحقيقة أنني استمتعت جدا بهذه الزيارة. كانت رحلة غير رسمية تماما. زرنا فيها كثيرا من المجالس هناك، منها: مجلس الشيخ سلطان بن طحنون عضو المجلس التنفيذي لإمارة أبو ظبي، ومجلس أحمد بن محمد البواردي وزير الدولة لشؤون الدفاع، ومجلس اللواء فارس بن خلف المزروعي القائد العام لشرطة أبوظبي، ومجلسي محمد وطالب أبناء الشيخ صقر القاسمي، وعدد من الشيوخ والمسؤولين والمثقفين والشعراء والأدباء، وقد غرقنا في كرمهم الحاتمي، وأخجلنا جميل استقبالهم، وأسعدتنا بشاشة حضورهم.

كانت غالبية النقاشات تدور حول العلاقة السعودية الإماراتية في المجال الدبلوماسي والعسكري والصناعي. وقد شدّني كثيرا فهم ومعرفة الأصدقاء الإماراتيين لكثير من الملفات السعودية: السياسية والاجتماعية والفكرية والرياضية، وغيرها.

ولأن الكلام يجر بعضه دائما، فإني كنت أسألهم حول أبرز المظاهر الإدارية المميزة في مؤسسات الدولة لديهم، لأحاول خلالهم استكشاف الأفكار الكبرى التي يسعون إلى نشرها في مجتمعهم وفي المجتمعات العربية الأخرى.

وقد اتفق غالبيتهم على فكرة نشر التسامح بين الناس، حاكمين ومحكومين، وأيضا في المجتمعات بكل أديانها وطوائفها، كوسيلة للوصول إلى حياة إنسانية مثلى.

ولأن الغالبية اتفق على هذه الفكرة، والتي بالطبع لم تكن وليدة اللحظة، فقد ذهبت إلى البحث عنها كثيرا على صفحات الإنترنت، وفي مواقع الصحف الإماراتية ومنتدياتها، فوجدت أن فكرة التسامح هي هوية الحكومة الإماراتية لهذا العام 2019، وقد تم تأسيس لجنة عليا برئاسة وزير الخارجية، لنشر هذه القيمة العالية في كل المستويات الإماراتية، سواء الرسمية أو الاجتماعية أو الإنسانية، أو حتى المستويات التي تتقاطع معها الإمارات دوليا مع الدول الأخرى.

استمدّ عام التسامح الإماراتي شعاره من شجرة الغاف، نظرا لرمزيتها الوطنية، إذ يُستمد منها الصمود والتعايش مع البيئة الصحراوية، كما أنها عنوان الاستقرار والسلام في الصحراء، كما أنها أحد مصادر الغذاء الأساسية، إضافة إلى أنها تعطي رمزية لما كان يمارسه الرعيل الأول من حكام الدولة الإماراتية، من عقد الاجتماعات والمجالس الشعبية تحت ظلالها الممتدة على طول البلاد.

طبعا، ولأن هذه هوية كبرى للإمارات، فقد حرصت على قراءة غالب ما يتعلق بهذه الفكرة، ووجدت أن لها 4 أهداف، الأول: ترسيخ قيم التسامح والتعايش في المجتمع. الثاني: تقديم النموذج الإماراتي في التسامح للعالم ليصبح جزءا من الفضائل المجتمعية. الثالث: تمكين التسامح في المجتمع عبر السياسات والتشريعات. الرابع: الانفتاح على الثقافات الإنسانية الأخرى.

عموما، من أراد الاستزادة حول هذه الفكرة، بإمكانه الرجوع إلى موقعهم على الإنترنت، والاطلاع على الهوية بالكامل من ناحية الرؤية والرسالة والأهداف، وأهم المبادرات في هذا الشأن.

في رأيي، إن التسامح هو الوجه الآخر للحزم. لا يمكن أن يتسامح مع الآخرين من هو ضعيف أو مهزوز الثقة بنفسه. ودولة الإمارات تعدّ من أشجع الدول التي حاربت التطرف بكل أشكاله منذ وقت مبكر، والشواهد على هذا كثيرة، ولذلك فإن فكرة التسامح لديها تأتي من مواقف القوة والمعرفة، والإدراك بأفضلية التعايش بالحب والسلام، وبالتالي، فإن هذا الأمر يصبح أكثر مشروعية، إذ سيكون له قبولٌ أكبر وانتشارٌ أرحب. وإذ إن الهدف الثالث ينصّ على تمكين التسامح عبر سياسات وتشريعات حكومية، يتم ترجمتها عبر مبادرات مؤسسية تقودها القطاعات الحكومية بشكل عام، هنا أقول، إن تلك المبادرات التي ستُعمل لا بد أن تكون من أبرز نقاط القوة التي ترتكز عليها تلك القطاعات.

أيضا، من الضرورة بمكان بأن نعرف أن العالم اليوم بدأ يعيد النظر في نظم الموارد البشرية والقوى العاملة في الدولة. وعليه أعتقد أن من التسامح المؤسسي أن تتم إعادة النظر في طبيعة الأعمال التي يعملها الموظفون في القطاعين العام والخاص. وأحب هنا أن أشير إلى تجربة تحدثت عنها بعض التقارير، إذ أجرت العاصمة الآيسلندية ريكيافيك، سياسة عمل جديدة، تتمثل في خفض ساعات العمل اليومي إلى 5 ساعات، وقد وجدوا أن الإنتاجية ظلت كما هي، إضافة إلى التحسن الملحوظ في مستوى المعيشة اليومي، ولذلك فقد أدى ذلك إلى انخفاض معدلات الضغط والإجهاد، وزيادة الوقت الذي ينفقه الموظفون مع أسرهم وعائلاتهم، وبالتالي، مزيدٌ من الرفاه والسعادة الاجتماعية للمواطنين.

مؤخرا، أطلق سفيرنا في الإمارات تركي الدخيل، كتابا بعنوان «التسامح زينة الدنيا والدين» ولأنني قرأت كتبه السابقة وأعرف المستوى الفكري الذي يصل إليه قلم أبي عبدالله -غفر الله له- فإنني أتمنى منه أن يفرد في صفحات طبعاته القادمة، قصص التسامح التي قدمتها دول الخليج وحكامها الكرام لكل من أخطأ في حقهم، خلال الفترات الزمنية الماضية، وكيف تعاملوا معهم بتسامح ورقي وإنسانية عظيمة.

(@faisalmsdd)