محمد الداعي للحق، ومحمد المجاهد لإعلاء كلمة الله.. ومحمد في السلم، ومحمد الزوج، والأب، والقاضي، والمشرع، ومحمد مع المسلمين ومع الكافرين والمنافقين.. ومحمد الرجل طيلة اليوم والأيام من حياته العظيمة..

محمد في كل ذلك وفيما لا تؤديه الألفاظ. هو الإنسان الذي بدأت تعرفه من يوم أن عرفت الطفل اليتيم.

أفلست تتمثله على قرب ولده إبراهيم يذرف الدمع..؟ أفلست تتمثله يسمع إلى حشرجة طفل غير ولده كان يسلم الروح، فيترقرق الدمع في محاجر عينيه كأكرم والد وأرق إنسان؟ أفلست تتمثله وقد قفل من غزوة بدر، هو يسمع رثاء في أحد قتلى بدر من أخته التي فجعت فيه، ثم يقف عند بيت مؤثر منها، فتسيل جفونه، ويتمنى أنها قالت هذا الشعر من قبل أن يأمر بقتله، وهو من ألد الأعداء؟ فلا تملك سوى أن تقول هذا شعور إنساني يثور في النفس الكريمة إذا استمعت لزفرات كبد محروقة يلفظها الشعر أو النثر البليغ.

أفلست تقف عند جهده العنيف يبذله لإنقاذ عمه أبي طالب من الوثنية، تقف عند نهاية الجهد الرائع، وهو في جوار عمه على فراش الموت ينازعه بعصبية تكاد تستشفها من خلال ألفاظه، وملامح وجهه التي ستتخيلها مشايعة لألفاظه المؤثرة وهو يسأله أن يقول كلمة يشهد له بها عند الله، فلا يسعك سوى أن تقول هذا هو الإنسان.. لكأنما نسي أو تناسى المقدور للكائن الحي منذ كان نطفة في رحم أمه، فما تتحكم فيه مع عمه أبي طالب سوى تلهف الدم القريب واحتدامه لينقذ دما قريبا له من النار.. حتى يقولها له الله «إنك لا تهدي من أحببت..» ولقد جاءه الأعرابي مفطرا في رمضان يلتمس الفتوى والتكفير، فإدا الفتوى تنخفض من عتق رقبة مؤمنة إلى حيث يؤوب المفطر بزاد طيب لأهله وعياله، ويحمد الله على السلامة، وفوق السلامة غنيمة وافرة.. أتاحها له الرسول «المشرع»«الإنسان».

وتقف معه عندما يستقبل خصومه في المسجد الحرام بعد أن تم له الفتح وانهزمت الفكرة الطاغية، فإذا هو «إنسان» تجيش في نفسه معاني الرحمة، فلا يملك سوى أن يشيع خصومه بعفو القادر، ويرسلهم طلقاء.

وهكذا تستمر مع كل عمل عمله النبي الكريم، وكل كلمة قالها، فلا يخطئك نبض الإنسانية التي يعجزك أن تلتمس مزاياها من مئات الرجال ثم لا تجدها متكاملة كما هي في (محمد) الإنسان، وقد اصطفاه الله بها ومن أجلها لرسالته الخالدة.. وكانت عظمته بها وبأنه بشر كريم وعلى خلق عظيم ومشاعر صحابته عليهم رضوان الله، لم تكن مسخرة إلا لهذا الأسر الإنساني فيه لقلوبهم العامرة.. فإذا فاتت المؤمن مزية الصحابي في معاشرة الرسول، فلعل عشرته التاريخية كفيلة أن تغمر فؤاده بالاستجابة الخاشعة لإنسانيته العظيمة.. وتلك. في رأيي. مزية المؤمن كما يجب أن يضعها نصب عينيه في سبيل فهم النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه.

ولذلك فما أحرانا أن نقف في ظلال سيرة الرسول بين كل يوم وآخر لنستمد منها العظة والعبرة، في تقويم إنسانيتنا ضد طغيان عنصر المادة على عنصر الإنسان.

* أضواء على الطريق