كانت صفوف المصلين تستدير حول الكعبة، وقد أقيمت صلاة الظهر.. واشرأبت الأعناق فجأة إذ أقبل الرجل نائحا على صحن المطاف، والصدق في نواحه يشد القلوب.

من يدري؟

ربما جاء هائما في موكب جنازة يشده إليها وجد.. وحب كبير..

ومنذ تلطف به رجال الحرم توقف عن النواح. حتى مضى الإمام في الصلاة.. ومضى هو فيها أيضا.. ثم ارتفع مرة أخرى.. ومرارا.. حتى تمت الصلاة.. ثم لم تتقدم أية جنازة.. ومضى الرجل في نواحه كما كان.

إنه في سن الشباب المبكر.. في ثياب طيبة.. ثم لا شيء يبدو عليه من أعراض المس أو الجنون..

وانكب ساجدا بنفس الدموع والنواح.. ثم انطلق بعد أن تجمع كعادتهم الناس.. وهفا إلى الحجر الأسود.. ثم اختفى إلى جواره تحت أستار الكعبة، والنواح يختنق في صوته بخشوع وأدب.. كأنما يرفع به كل ما في قلبه.. بأفصح بيان حار ضارع.. إلى الله.. وراطنه أحدهم بلغته، فكف عن النواح ثم عاد إليه وقد انفلت طائفا حتى غاب كما جاء فجأة..

وقال من راطنه: إنه الخشوع في الله.. وحقا إن ذكر الله إذا صدق فيه القلب والضمير يثير النواح والخشوع..

يلوح أن الاستغراق في الذكر هو في مقدمة أهداف تشريع الصلاة بعد إتقان أدائها كما يشير قوله تعالى «فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم»، ليستمر أثرها في سلوك الإنسان.. فما يعود يخشى أحدا أو يرجوه إلا من باب التماس الأسباب أو دفعها، وفي حدود ما لا يتعارض مع ذكر من هو حقا أهل الخشية وأهل الرجاء.. ذكرا متصلا ليس بالشفاه والألسنة، بل هو معها أو بدونها محله القلب، والاستغراق فيه مطلوب، غير أنه قمة صعبة، فما أكثر ما تتفلت الخواطر ونزعات الهوى والشيطان لتخالس ضمير الإنسان، وتقاوم فيه هيمنة الذكر والاستغراق..

إن أكابر الناس كالصحابة عليهم رضوان الله كانوا يعانون شيئا كهذا في صلاتهم، وتحدثوا عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرشدهم إلى نحو ما أشار إليه قوله تعالى «وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله.. إنه سميع عليم.. إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون».. فكيف بهم خارج الصلاة؟ وكيف بمن هم دون الأكابر من طرازنا؟.

إنه - أي الاستغراق - أعلى القمم في عالم الذكر والمناجاة، ولم يتبوأها - كما أظن - إلا المرسلون ونبينا في المقدمة - صلوات الله وسلامه عليهم - فقد كانت قرة عينه الصلاة، وكانت تستغرقه إلى حد أن تورمت قدماه، وكان فيما عداها يعيش نفس الاستغراق وحلاوة المناجاة فيه.. لا يصده عنه أنه كان في الوقت نفسه يحمل أعباء الرسالة.. ويؤدي مهامها بأفضل وأقوى ما أداها به المرسلون قبله..

كان يعيش ظاهره بين أهله وأصحابه.. وباطنه مع ربه ولا شيء سواه.. في أعلى القمم كما أسلفت، وأين نحن مما دونها في الصلاة وخارج الصلاة؟

إننا نعجز كثيرا عن مقاومة ما في داخلنا، ونتخبط بين كل هاجسة وأخرى، تصرفنا دائما إلى حيث ننسى مصادر القوة في الإيمان بالله والاستغراق في ذكره وتقواه.. حتى إذا مسنا الضر لم نجد بدا من الفزع إليه، فإذا انكشف عنا بتدبيره الرحيم مر أحدنا كأن لم يدعه إلى ضر مسه، كما قال في كتابه العزيز..

ويخيفنا الموت بأكثر مما تخيفنا الحياة مع أن عوامل الخوف فيها أكثر وأقوى لأنها هي طريقنا إلى الموت وما بعد الموت..

إننا صائرون حتما إليه، وهذه الحقيقة وحدها تكفي لتفيض قلوب الخاشعين بالوجد والدموع.

* * أضواء على الطريق