يتعرض النظام التعليمي بمختلف مستوياته التعليمية، لكثير من النقد والنقاش المجتمعي، حول مدى مناسبته سوق العمل القائم بما يخدم متطلباته وحاجاته، سواء من المتخصصين أو غيرهم، ممن لا يملك بعضهم أبسط الأدوات العلمية أو الإمكانات والقدرات التي تمكّنهم من تقييم الواقع الفعلي لإشكالية التعليم بمخرجاته، وتحديات سوق العمل بتعقيداته المختلفة.

ومن البدهي، أن قضية التعليم بمنظومته المتشعبة في جميع مضمونها المؤسسي ومسؤولياته التربوية والعلمية، لا يمكن مناقشته مجملاً بجميع تفاصيله في عجالة، والأمر ذاته يندرج على سوق العمل بمختلف إشكالاته وما يتعلق به من تحديات كبيرة تؤرق المجتمع الوطني، وكلاهما: التعليم، والعمل، لو أحسنّا إدارة البوصلة المؤسسية للمعنيين بهما، بما يخدم المتطلبات الوطنية والتطلعات الإستراتيجية والتنموية، لتوصّلا إلى تلك الحلقة المفقودة بينهما في معالجة جوانب الإخفاق والتعثر، والتي ينعكس أثرها سلبا على الوطن بمجمله، وبما يحتضنه من مقدرات مادية وبشرية ومستقبل نأمله، ولنجحا فعليّا في حل كثير من الإشكالات والتحديات التي نشهدها اليوم في مسيرة التعليم وسوق العمل، ولحصدنا ثمار تعاونهما ومشاركتهما المؤسسية، المتمثلة في جهود وأعمال مختلفة تصب جميعها في بناء الصرح الوطني الذي نريده، والمستقبل الذي ننشده.

ومما يهمنا مناقشته والتعرض له، هو: ما الهدف من التعليم؟ وما دوره في خدمة المجتمع؟ وما مسؤولياته المؤسسية المعني بها؟ ولماذا هناك ما يسمى بنظام للعمل؟ ولماذا هناك وزارة مسؤولة عن معالجة إشكالات سوق العمل؟ وما دور وزارة العمل في الدفع بمنظومة الأعمال المختلفة لتحقيق التطلعات الوطنية؟. وآخرا، ما نوع الشراكة والتعاون المطلوب وجوده، بين التعليم والعمل «وزارة العمل+ الخدمة المدنية» للوصول إلى تلك الحلقة المفقودة بينهما، لتحقيق تنمية مجتمعة واقتصادية شاملة؟.

يعتقد البعض أن الهدف من التعليم هو تحصيل المعرفة للتمكين من العمل، وإنه بذلك يحقق دوره في خدمة المجتمع، وأإن مسؤولياته المؤسسية تنحصر في إتاحة المدارس والجامعات لاحتواء الطلاب والطالبات للدراسة في التخصصات المختلفة، التي تخدم سوق العمل، وتتيح لهم الحصول على وظائف يستطيعون بها تأمين حياتهم الأسرية والمجتمعية.

وبالطبع، فإنه لا يمكننا أن ننكر أن التحصيل المعرفي هو من أحد أهداف التعليم بمختلف تشعباته ومستوياته، ولكن تحصيل المعرفة والعلم المتخصص ليس الهدف منه التمكين للعمل فقط، وإنما الهدف منه، تمكين الإنسان لذاته علمياً وقيمياً، وأداءً وفكراً وثقافةً، ومهارة وتعزيز قدرات، وغيره، وبما يتضمن التأهيل لطرق التفكير المختلفة، والتمكن من التحليل لمعالجة المشكلات والبحث عن الحلول المناسبة علمياً، والذي لن يتكون إلا بالتعليم الجيد، الذي يستهدف البناء الفكري والقدرة على التحليل، والربط بين المفردات العلمية المختلفة، لمعالجة التحديات في مختلف جوانب الحياة.

فالتعليم الجيد، هو أداة ووسيلة للحصول على العمل المناسب واللائق، والذي يحتاج إلى معرفة متخصصة وإلى مهارات وقدرات مختلفة.

إذن، فالهدف من التعليم هو بناء الإنسان الصالح المفيد لذاته ولأسرته ولمجتمعه ولوطنه بصفة العموم، ويتضمن ذلك مناسبة تعليمه أو مواءمته متطلبات سوق العمل واحتياجاته الحالية والمستقبلية، فذلك جميعه من إفرازات التعليم الجيد.

ومما يجب التأكيد عليه، أن الاهتمام بجودة التعليم ومستوى أدائه هو مربط الفرس في القضية، وتلك هي المسؤولية الأساسية التي تتحملها وزارة التعليم المعنية بمتابعة واقع العملية التعليمية، ومستوى جودة أدائها ومخرجاتها، في جميع المؤسسات التعليمية العامة والخاصة، باعتبارها مسؤولة عن المشروع التعليمي برمته، وهي من يمنح الرخص للمنشآت التعليمية الخاصة بمختلف مستوياتها.

ومن جهة أخرى، فإن مسؤولية التعليم الاجتماعية المتعلقة بسوق العمل، تتمحور حول تنفيذ نظام تعليمي ومحتوى معرفي وطرق تعليم، تمُكّن الإنسان من الانخراط في سوق العمل بجدارة، في مختلف المجالات المتاحة، ولمختلف المستويات التعليمية، سواء الجامعي منها، أم الدبلومات المتخصصة لكليات المجتمع المختلفة للمرحلة دون المستوى الجامعي، وتلك المخرجات هي التقييم الفعلي لنجاح المنظومة التعليمية، ومدى تحقيقها أهدافها، والتي تُترجم في مستوى استطاعة تلك المخرجات في تحمل مسؤولية قطاع الأعمال، بمعرفته ومهاراته المختلفة، وما يتطلبه من الالتزام بقيم مهنية.

ولذلك، فإن المناداة بتغيير النظام التعليمي بما يخدم متطلبات سوق العمل، والمطالبة بإغلاق بعض التخصصات النظرية في الجامعات، باعتقاد أنها ليست مطلوبة في سوق العمل، وأن مخرجاتها تعاني من البطالة، فذلك مردود عليه، بأن البطالة تشمل جميع التخصصات، وأن هناك حلقة مفقودة بخصوص التوظيف، بين الجهات المسؤولة عن نظام العمل، وسوق العمل بصفة عامة، من الخاص والعام، والذي يتطلب تحديث وتطوير كثير من اللوائح الخاصة بالمسميات الوظيفية، لتأخذ فرصتها بين الأعمال والفرص المتاحة، والتي تحتاج إلى جميع التخصصات النظرية وغيرها، خاصة أن بعضها كان وما زال قاصرا على وظيفة «معلم/ة»، وذلك على الرغم من المستجدات التي نعيشها في كامل المنظومة التنموية.

وعليه، فإن نظام العمل مسؤول خلال تشريعاته وأنظمته وبنوده ومواده المختلفة، عن تنظيم سوق العمل، ومعالجة تحدياته والحد من إشكالاته التي تتفاقم دون تفاعل ملموس وملائم بينها، وبين تلك العقبات الحقيقية التي تواجه التوظيف والموظفين، سواء من هم على رأس عمل، أو ممن هم ما زالوا يسعون في البحث عن عمل مناسب، أو أولئك الذين يعانون من البطالة لسنوات.

ويمكن حصر الحلقة المفقودة بين المؤسسات التعليمية وسوق العمل، في جانبين:

1- التنسيق بينهما في القدرة على تقديم مخرجات وطنية نوعية، تتمتع بمستوى معرفي جيد، وبمهارات علمية، وقدرات فكرية يحتاجها سوق العمل الفعلي بمجالاته المختلفة، وإتاحة فرصة التطبيق والتدريب، للتمكين من المهارات المطلوبة قبل التخرج سواء لمخرجات الدبلومات أو الجامعات في القطاعات المختلفة من العام والخاص.

2- التحديث والتطوير المستمرَّيْن للوائح وأنظمة وتشريعات نظام العمل بدايةً، بما يخدم تحقيق أهداف التطلعات الوطنية والرؤية الإستراتيجية في جميع ما يتعلق بنظام العمل، وما يتصل به من تحديات مستجدة، تؤثر على مستوى استقرار السوق الوطني وما يتعلق به من موارد بشرية ونظام عام، والتحديث والتطوير كذلك لنظام التعليم المتبع، وما يتضمنه في منظومته من آليات

وأدوات وموارد بشرية وغيرها، وخطط دراسية ومحتوى علمي وتطبيقي، بما يسهم في تمكين الإنسان علميا وتأهيله ميدانيا.